أكتب لأن في هاتفي أحرف عربية

حامد والسيدة الملكة

قد لا أكون من عشاق كتابة القصص ..
لكن شيئاً ما دفعني لأكتب المزيد في كل يوم ..
أتمنى أن تنال هذة القصة البسيطة جداً على إعجابكم ..
و الأهم من ذلك، أن أدخل بها قلوبكم ..
 
روحُ كُلَ تلكَ الشوارعِ تسكُنُها ظلمة .. الأعينُ خلف الستائر، بدت قلقة .. موحشةً غدت ليالي كانت بالأمسِ مبتسمة .. تعالت همساتُ البشر، وزادت المكانَ ربكة .. الكل مذعورٌ بعد أنباءِ غياب السيدة الملكة ..  أوهكذا كان يظن
 
قال: "لو غاب عن نظري مرأى الجَمال .. لو طارت طيور الحُبِ وسكنت أعلى الجبال .. لو لوحّت لي كفاً بالوداع، وبقي منها الخيال .. لو سَمِعَت أذني همساتٍ أن اللقاء محال ..  لو لم يبق لي غير طيفٍ يرتدي عِطرَ الوصال .. سأظل أنتظر" ء
" سأنادي، لأنكِ أنتِ الوحيدة التي تُصبِحُ حياةً لمّا أُنادي .. سأُنادي أمام مرأى كل جميلات الكون، حتى يسألوني عنكِ .. وأقول لهم أنّك أجمل مَن على الأرض بروحكِ و قلبكِ، وأنكِ أبسط مَن على الأرض بالخارج من جمالكِ .. سأُنادي للعالمِ عندما أراكِ تُقبلين .. لتعود له الحياة التي ستأتي بك، وتزخر الطرقات بالورود لكِ"
فكم يُصبِحُ الرحيلَ جميلاً إن تبعته عودة.. ولا أجملُ من عودةٍ تأتي بعد انتظار ...
 هكذا ظَن شاعِرُ المدينة الصغير .. وهذا ما شعر بِهِِ دونَ غيره من الناس الذين يسكنون بجوارِه .. كما كان العديد منهم يظنُ أنه قد لا يكونُ يعلم أين هو .. فلقد كان غريباً بينهم، لم يلد في مدينتهم .. بل أتاهم منذ أيامٍ وسَكِنَ إحدى الغرف الصغيرة التابعة لرجل أعمالٍ معروف، وقد أجّرها على الشاعر الصغير تعاطفاً معه. كانت الغرفة بين محلاتٍ عديدة في سوق المدينة القديم .. لم يكن مكاناً جيداً للعيش، ولكن هل كان فعلاً يهمه ذلك؟
 رغم غرابته في بعض الأحيان، ورغم عدم انتمائه إليهم، إلاّ أنهم أجزموا جميعاً على جمال ما تخطه أنامله .. واتّفق الكل على عذوبة الحروف التي تخرج من ثغره كلما سها وهو يمشي بين جدران المدينة الضيقة.. لتُخرِجَ الفتيات رؤوسهن من النوافِذِ دون أن يعلم ويستمعوا .. كلٌ منهن تحلم أن حديث الحب لها، وأن الأوصاف عنها ..
جَلَسَ في إحدى ليالي فصل الشتاء شديد البرودة الذي أتاهم فيه.. جلس على مُرَبَّع الأسمنت الذي كان ملاصقاً لغرفتة من الخارج، يشاهد الناس تعمل و تتحدث، ولكنه لا يسمعهم.. وكان قد اعتبر الشاب هذا المكان مخرجاً لأفكاره وكلماته .. والغريب أنه لم يَكُن يكتُبُ الكثير فعلاً، بل كانت كلماته تخرج عفوية، وبعد ذلك يكتب ما يتذكر منها متى ما حلا له ذلك. أسنَدَ رأسَهُ على جدارِ غُرفَتِه من الخارج، رفع رأسه للسماء، أغلقَ عينيه ..
 وقال " تأتي أيامٌ قد تطول لأعوامٍ، و أيامٌ أُخرى تمضي أمامي كالسراب .. ليت كل أيامي سراب ورياح إذا ما كانت تحمل منكِ أخبار .. و ليت كل ساعاتي ثوانٍ أمضيها معكِ بصحبة الأشجار .. تطلبين مني ثمرٌ، وأُقَدِمُ عيناي ثمار .. أقطف من الأرض زهوراً ، وبِيَدِكِ تزدادُ إزدهار .. يا من تزدانُ حياتي بها.. يا من على مدينتك التي لا أَعرِفها تكونين فرحةً للصغار .. أمطارٌ .. وأنهار ..." ء
يفتحُ الشاب عيناهُ فجأةًَ ليرى أن كُلَ شيءٍ أمامه قد توقف. الناس واقفةً تشاهده وهو يتحدث .. فمعظمهم حَفِظَ كلماته قبله، ومنهم من استخدمها كوسيلة لكي يُرضي به  زوجته، وأحياناً حبيبته...   يذهب الكل في عمله وإلى ما كان يشغله، عندما يتوقف العاشق عن الحديث مع نفسه .. وتعود الحياة المعتادة إلى المعتاد مرة أُخرى
 
يجلسن عواجيز المدينة في بعض الأحيان لتناول الشاي في أحد بيوتهن.. ويحدث ذلك في كل مدن العالم.. بعاداته وتقاليده ودياناته وأعرافه المختلفة .. إلاّ أنّ تواجدَ الأمهاتِ للتحدثِ أمرٌ اعتادته كل تلك المدن والحواري .. فقد كانت هذة المدينة كغيرها، بسيطة لما فيها من بيوتٍ وأشخاص .. فيهم الغني و فيهم الفقير .. فيهم التاجر واللحام والحلاق والطبيب والمهندس والمعلم .. فيهم الأطفال والكبار .. لم تكن بتلك المدينة الكبيرة .. كانت عائلاتها قليلة ولكن كبيرة .. لذلك نجد أن كل من سكن فيها عَرِفَ الآخر، وحفظوا وجوه بعض .. ما عدا "حامد" الذي كان وحيداً .. أو كما أسموه، الشاعر الصغير
"أبحث عن العديد من الأمور عندما أبحث عنكِ ، بل أبحث عن كل أمر .. هوائي ومائي وقلبي وروحي، وبدرٌ أشع للعالم سحر.. غيومٌ تلاحت ترسم إسمكِ، سعيدةٌ لكونها ظِلِّكِ  .. لهفتي تزدادُ كُّلِ يومٍ،  كلهفة الوليد لأمه .. متى ألقى سِبّةَ سفري، أين أنتِ يا سيدتي .. يا ملكتي" ء
كلماتٌ بدت تتردد على مسامع الناس، تخرج من أفواه الشاب .. سيدتي .. ملكتي .. الانتظار .. شيء في الصبر و البحث .. أمورٌ غريبةٌ عن أهالي المدينة .. فقد كان الناس يدردشون معه في بعض الأحيان عن أمور الحياة، أمورٌ عادية.. لم يتحدث بجدية عن سبب قدومه لمدينتهم.. أو ربما لم يسألوه عنها بشكلٍ مباشر.. ولأنهم أُناسٌ طيبون، ولا يأتيهم العديد من الزوار، فقد رحبوا به عند قدومه.. كما لو كانوا فرحين بزائرهم .. وكما لو أنهم شعروا بأنه مسالم ولا يبحث عن ما قد يضرهم بشيء. ورغم أن ما يقوله ويردده يعجبهم ، إلاّ أنّ الفضول بدأ يصيبهم، وكأنهم بدأوا ينقشون في حروفه ويبحثون بين كنز الكلمات عن قصة شاعرهم من خلال أحاديثهم معه .. علهّم يعرفون من أين يأتي، وماذا يحمل في قلبة المرهف كما هو واضح لهم.
كان أطفال المدينة الغريبة على الشاب من الأطفال العظماء في ذلك الوقت. ربما كان معظم أبناء العالم هكذا أيضاًً. ليس لأنهم ولدوا هكذا، أو لأنهم كانوا معجزةً على الأرض. بل لأن من يكبرهم سِنّاً كان دائماً مشغولٌ بعمله. نعم لم تكن هذة المدينةِ بالمنطقةِالغنية .. و لم تكن بأفضل أماكن التجارة .. إلا أن سُكانها كانوا مجتهدين، ودائماً يعملون لما هو أفضل. دائماً يبحثون عن حياةٍ مليئةٍ بالعمل والعلم والمعرفة والسعي إلى كل ما هو جديد. فلذا، كان على الأطفال الذين يرغبونَ بمواكبة ما يدور من حولهم، أن يتعلموا التحدث والتفكير كالكبار.. لأنهم يعلمون أن أولئك الذين يعملون، لن ينزلوا لمستوى تفكير الأطفال، لذلك على الأطفال بأن يترجلوا ويصعدوا لمستويات عاليةٍ من الحديث والتفكير. هكذا كانوا أطفال ذلك الزمن.. وهكذا أتاهم الشاعر الصغير من بلاده. حيث كان يجالس الكبار، ويسمع منهم. تعلم منهم الحكمة والثقة بالنفس .. تعلم منهم أن يحلم .. وتعلم منهم أيضاً كيف يحب .. إلى أن أخذته كل تلك الأمور إلى المكان الذي هو فيه الآن. إلى هذه المدينة الغريبة، التي أتاها باحثاً عن أمرٍ ما .. الذي أتاها ليفرغ ما في جعبته من أحلامٍ وكلمات.
وبينما هو جالسٌ في مقعد أشعارهِ في يومٍ من الأيام .. إذ بأحدِ أطفال الحي يراهُ من بعيد .. ثم يأتي إليه، ويجلسُ بقربه. تفاجأ الشاب .. نظر إليه فابتسم الطفل .. وما كان على الشاب إلا أن يبتسم هو الآخر .. وبدأ حوارٌ بينهم طال لدقائق، لكنهُ كان سبباً لأمورٍ عديدة من بعده
-     من أين أتيت؟
-     أتيت من حيث كان قلبي
-     كان قلبك؟ وأين قلبك الآن؟
-     هو مسافرٌ مثلي .. يرحل وأنا أُلاحقهُ من مكانٍ لأخر.
-     إذاً هو من أتى بِكَ إلى هنا؟
-     هو من قال لي أن أبحث عن الكلمات التي تبحث عني .. وعن كل ما يصف سيدتي .. ويُعلِمُني أخبار ملكتي ..
-     لكن لا يحكم هذة المدينة ملكة .. ربما كان قلبك مخطئ .. أنت تائهٌ يا هذا
ابتسم الشاب و حرك يدهُ على رأسِ الطفل .. ثم نظرَ إلى السماء ..
-     قد يخطئ عقلي، و قد تخطئ قدماي .. إلا أن قلبي دليلي في كل الأحوال .. قد لا تفهم ما أقول، وقد لا أفهم أنا ما أقول .. لكن قلبي أحَبَّ ملكةً تحكم كُلَ الديار .. و أحبها كل الناس رغم أنهم لم يروها أبداً .. أخبرني، هل هذا ممكن؟
-     لا طبعاً .. أنت تحلم ..
-     و كم جميلٌ هو هذا الحلم .. ولا يوجد أجمل منه، إلا الذي يتحول إلى واقع .. لذلك سأرحل اليوم من هنا .. لأكمل حلمي .. و لتروي أنتَ قصتي للناس .. و سأمضي أنا باحثاً عن واقعي .. عن ملكتي .. وعن كلماتي وحروفي ..
بعد أن جمع حاجاته، وأقفل الباب خلفه .. رحل مُبتَسِماُ دونَ أن يُسَلِّم على أحد .. وكأنه اعتاد الرحيل، واعتادوا منه الرحيل .. مضى يمشي شاعرهم، و كلٌ منهم أخذ يردد في قلبه أحد أبياته التي حفظها عنه، وهم ينظرون إليه وهو يرحل ..
يقول في قلبه " أتيتكِ في كل مرةٍ و ما زلتي ترحلين .. أتيتُ و كلي أملٌ أن أرى ما تُخبِئين .. أتيتُ و رحلتُ أُلاحق قلبي المسكين .. أُلاحقُ حلمي الذي بدى قريباً وبعيداً، يتساءل عن المسافةِ.. أتدرين؟ "
يناظر السماء، يرى الشمس ولا يغمض عيناه ..
" و لو كُنتي هناك .. سأدور الأرض كلها بضع مرات .. حتى تَمِلَّ الأرض قدماي .. و ترفعني إليكِ .. ولن أغمض عيناي .. حتى أُقَبِّلَ شفتيكِ .. وتنام يداي عليكِ .. وأشم عطور الدنيا من جبينكِ وخديكِ.."
 
كتب قلبي ما يشعر به ..
وربما يكون قد مثّل العديد من الأشخاص
تماماً كما مثّلني .. و حكى قصتي