أكتب لأن في هاتفي أحرف عربية

أحببتها وحدي



أصبحتُ لحظتها أسعد مخلوقات الكون بأكمله، حين قالت لي نعم. حين قبلت بي رجلاً في حياتها. أصبحتُ وكأني ألتقي الحب لحظتها لأول مرة، وكأني أراهُ أمامي، ملاكاً، لا يشبه شيئاً، ولا يشبهه أحد. لابد لأنها لم تكن ككل الذين مرّوا من هنا، بجوار قلبي أو بداخله. كان لابد لي أن أتبدّل لها، أن أصبح مختلفاً لاختلافها. هي الطفلةُ التي لعبنا أنا وهي في أحد أيامنا القديمة عند زاوية المكان. يومٌ لن أنساه ما حييت. هي المزعجة التي جعلت من الهدوء شيئاً قبيحاً. هي الابتسامة التي إذا حضرت، تغيب الشمس خجلاً وارتباكاً. هي النور الهادئ، والنهر الساكن، والمطر الخريفي البارد.

حبيبتي التي أحببتها لوحدي، دون مشاركة أحد. حبيبتي ذات القلب الخجول، والروح الهادئة، والوجه المريح. حبيبتي التي في صوتها تنام كل إناث الأرض، ومن كفّيها كل صباح يصحو جميع رجالها، لينطلقوا، وأبقى أنا هناك لوحدي أنام إلى الأبد. حبيبتي التي حَسِبْتني حبيبُها، حتى غيّرت رأيها، في لحظةٍ كنت الأتعس فيها، والأكثر رعباً، والأسوأ حظاً على الإطلاق.

كل شيءٍ حدث بسرعة. عرفتها، فوجدتُ نفسي، فأحببتها، ورضت بي، ثم حين رأت أجنحتي تتفتح، قامت بكسرها دون أن تستأذنني، فأضعتُ نفسي من جديد، وكأني لم أعد أعرفها.

ماذا حدث، لا أعلم. أين ذهبت، لا أعلم. إلى من تحدثت، ماذا رأت، لا أعلم. لا أعلم سوى انني فقدت في تلك اللحظة الكثير من حياتي التي رأيتها تتراقص أمامي. فقدت في تلك اللحظة الرغبة بالشعور، والعمل، والحلم، والصلاة، والدعاء، والأمل. فقدت في تلك اللحظة دون أن أشعر، الرغبة في كل شيء، وأي شيء. حدث ذلك منذ سنوات، إلا أنّي أكتب الآن فقط لأني وأخيراً أدركت كم تغيرت حياتي منذ تلك اللحظة. حدث كل هذا، ومضيت في طريقي الذي اختلف، ووقعت مئات المرات في الطريق من دون أن أسقط.

أنا لا أعتب عليها لأنها ابتعدت فجأة، بل لأنها أخذت معها الأمل الذي كنتُ أتكئ عليه. وأخذت معها المستقبل الذي كنت أجري بفرحٍ إليه. وأخذت معها اليد التي نمت فيها لوحدي، فانطلقتُ أنا، وعاد الرجال جميعهم ليناموا في مكاني.

حبيبتي التي أحببتها لوحدي دون مشاركة أحد، أحبّتهم جميعاً وكَرِهَتني. تركتني لأمضي وحيداً، ليس في قلبي أحد.

لحظات تمر عليك

في الحياة هناك لحظات تمر عليك، ببطء أحياناً، وأحياناً أخرى بسرعة، تأخذك لموقعٍ مرتفعٍ عن ما أنتَ عليه. تأخذك لتنظر لحياتك من الأعلى. من كل الجوانب التي لا يراها الإنسان من مكانه الطبيعي. وكأنك في لحظتها إنساناً آخر، ينظر في عددٍ هائلٍ من المرايا، ولا يرى أحد، ومراتٍ أخرى يجد في زاويةٍ واحدة من تلك المرآة، كل أحد. ماذا فعلت. ما الذي قُمت به، الآن، وبالأمس. البارحة، وما قبلها، ومنذ ولادتي. لِمَ أنا فعلاً هنا، وأين أريد أن أكون.

 هناك لحظات، تختلي فيها بنفسك، دون أن تدرك أنك حقاً لوحدك. لوحدك تماماً في الحياة. واقفاً هناك دون أن تلتفت، فلا أحد يقف بجانبك على أية حال. في الحياة ازدحاماتٌ مؤلمة، بشرٌ كثر، أيامٌ لا تحصى، وقتٌ قصيرٌ جداً وفراغٌ أعمق من كل هذا. 

هناك لحظات، وهنالك أسئلة، وهناك مخاوف تكادُ لا تنتهي. لحظة تشعر فيها بين الناس بأنك ملكت كل شيء، وحين ينتهي بك يومك في غرفةٍ لا ينيرها سوى شمعةٍ بقرب النافذة، تشعر مثلها بالوحدة، وبأنك حقاً لا تملك أي شيء. أسئلة تكاد تمزق رأسك من شدة قسوتها. ولا شيء يشبه السؤال الأقسى: ثم ماذا؟ ماذا بعد كل هذا؟... لا شيء. أو ربما كل شيء. والفرق بينهما إما كبيرٌ جداً، وإما يكاد لا يُرى. ومن بعدها يأتي الخوف الأعمق على الإطلاق، وهو أن ينتهي بك العمر، وأنت لا تحمل في قلبك أرقّ أشكال الحب. فالحب حياةٌ من دون شك، هو كل الحياة. 

هناك لحظات تمر عليك، تذكرك بكل هذا وذاك، تُميتك وتحييك في لحظات، تعيدك إلى حيث بدأت، لتذكرك لِمَ بدأت. جئنا للحياة دون اختيار، وسنرحل عنها متى تشاء هي. نحن هنا في رحلة انتظارٍ لا أكثر، وكم نحن البشر حمقى، لنستنزف كل هذا التعب، في حين أن كل ما علينا فعله حقاً هو الانتظار. بصمتٍ أو بغناء. بضحكٍ لا ببكاء. فهنا نملك الخيار، هنا فقط، عند الانتظار. أما القدوم والرحيل، والحب من بينهما، فلا يد لنا فيهم، ولا رجاء سيغيّر موعد وصولهم. 

هناك لحظات في الحياة، توقظنا، تفتح لنا قلوبنا، وتبدد كل مخاوفنا. لا نطلب لحظتها شيئاً، سوى أن نمضي في العمر نحمل قلباً، يتوقف متى ما شاء، ولكن يترك للحب مكاناً فيه دائماً، حتى يجد الحب لنفسه مكاناً متى ما جاء، إلى أن يشاء ويتوقف القلب إلى الأبد، قبل أن يحيى من جديد مرة أخيرة.

خربشات الوقت الضائع


رغم كل تلك السنين.. ما زلت أذكر اللقاء الأول، واللقاء الأخير.. وما زلت أحنّ لكليهما.. وما زال قلبي ينبض سريعاً كلما تخيّلت مصادفتك، حتى أصبحتُ أخشى الصدف.. رغم كل تلك السنين.. 
تعلّمتُ في طفولتي ما كان يجب عليّ تعلمه اليوم؛ تعلمتُ الحب، والإيمان به.. وحتى الكذب من أجله.. تعلمتُ الإنسانية التي تناستني.. والخوف الذي هجرني.. علّمَتْني الطفولة، كلّ ما علّمتِني.. كبرتُ بكل أسفٍ، ولم أعد اليوم تلميذ.. 
أنا سعيدٌ لأني عشتها، وحزينٌ لأني فقدتها.. وكم أتوق لاسترجاعها.. كم أتوقُ للعيش من جديد، للسهر والضحك والغيرة والغضب.. للشوق واللقاء والأغاني والقصيد.. ولم أشتق في حياتي لشيءٍ بقدر اشتياقي لحبّات الرمل التي سُكِبَت في كفّي، قادمةً من يداك.. رغم كل تلك السنين.. 

_____________________________

مضت سنواتٍ طوال منذ أن رأيتُ وجهكِ آخر مرة.. عبرتُ خلالها الكثير من البحور، وكتبتُ العديد من القصص التي لا تخصني، حتى نسيتُ من بعد وجهكِ، وجهي.. ثم جلستُ في ليلةٍ باردةٍ ميّتة، بعيداً عن المدينة، بعد السنين الطوال، أراقب الهلال الدافئ يذوب ببطئٍ شديد، حتى شعرت بأحجاره الصغيرة تتناثر عند أرجلي.. وإذ بوجهكِ يظهر فيه، ويزداد وضوحاً كلّما ذاب الهلال أكثر.. رأيت وجهكِ بكل تفاصيله، وفي كل لحظاته.. وإذ بي أعود طفلاً، ثم شاباً، ثم رجلاً من جديد.. رسمتِ لي بوجهكِ في تلك الليلة دون أن تدرين، أجمل لوحةٍ احتضنتها سماء الكون.. احتجتُ في تلك اللحظة لشيءٍ أكثر من ذلك بقليل.. احتجتُ أن أتلمّس اللوحة، بألوانها وخربشاتها.. أن أتلمّس دفئ وجهك، وابتساماته وشاماته.. احتجت ولكن الهلال اضطّر للرحيل، فعدتُ إنساناً بلا ذاكرة، ولا روحاً ولا أحجار متناثرة.. 

بالعربي - خمسة



أتعلمين يا سيدتي معنى أن يصاب أحدهم بالحب منذ أول نظرة، ثم يغرق بعدها بالحب مع كل نظرةٍ جديدةٍ ألف مرة؟ أتعلمين يا سيدتي معنى أن تكون الزيارة الأخيرة إليكِ شبيهةً بالزيارة الأولى؟ يعتبر هذا إنجاز، بل يصل لحد الإعجاز، يا سيدتي. كتبت لهذه المجلة في كل نسخة دون تردد فور أن أُخبرتُ بعنوانها، حتى أصبحتِ أنتِ عنوانها، ففقدتُ الأحرف كلها، وظللتُ الطرقات كلها، وتأخرتُ كثيراً في تسليم هذه المقالة. كيف لي أن أصف حقيقة الحب في بضع كلمات، وكل معاني الجمال في بضعة أسطر. أنتِ يا سيدتي، كالموسيقى الرائعة، لا يختلف أحداً على سحرها. أنتِ كآخر بيتٍ في معلقة خطّها قيس أو المتنبي أو عنترة. أنتِ السماء الممطرة في صحراء العرب، والشمس الساطعة في قلب غيمات أوروبا. أنتِ بلا شك، بقعةَ نورٍ ظلّت طريقها فوصلت إلى هذا الجزء من العالم المكتظ بكل ما هو محبط، حتى أصبحتِ لأهله الأمل، وأعدتِ لهم تعريف المستقبل.

الكل فيكِ يجتهد حتى يشعر بالسعادة التي تمنحينها دون تردد. الكل فيكِ يتوق للقائك في الصباح حتى يتجمل بكِ، والكل فيكِ يتسابق معكِ سعياً للوصول إلى شيءٍ من تألقك. الكل فيك مشغولٌ بتحقيق أحلامه، لأنكِ الأرض التي احتضنت كل الأحلام؛ ولأنكِ مختلفة، فقد اختلف فيكِ البشر، واختلفت أفكارهم وطموحاتهم 
واهتماماتهم. أنتِ أهديتِ الناس أجمل هدية، وأهم معنى للحياة. أهديتهم حب العمل، وحب النجاح، وحب الحياة.

بعيداً عن الأرقام القياسية التي تحققينها كل يوم، وتصدركِ عناوين أغلب صحف العالم كل صباح، ووصول الماليين إليكِ ليروا بأعينهم ذلك السحر الذي سمعوا عنه في مكانٍ بعيدٍ جداً عنك. بعيداً عن كل هذا، أحبكِ لأني أرى فيكِ كرم أهلنا الذين رحلوا، وأرى فيكِ تعب أبناءك المخلصون. أحبك لأنكِ الصباح الذي أشرق على من سهروا يعملون من أجلك، ولأنكِ الدواء الذي يشفي من أنهكته مزح الحياة الثقيلة. أنتِ المرأة التي تبذل الكثير من الجهد حتى يخرج ضيوفها من بيتها وهم سعداء مبتسمون، فتشتاق إليهم فور خروجهم. أنتِ الطفل 
الرضيع الذي يُنسي الأب همّ يومه المتعِب. أنتِ المثل الأعلى، وسقف الطموح. أنتِ القدوة، وعطر الروح.

حين فزتِ باستضافة أكبر معارض العالم وأحد أهم أحداثه، وبعد أن شاهدت وسمعت مباركة كل العرب لكِ ولشعبك، وسعادتهم الغامرة التي كادت تفوق سعادة أبنائك، نظرت لصديقي وقلت: يحبونها كثيراً. فقال لي: لأنها تحبهم، تحبهم جميعاً.

أدعو الله أن تبقي هكذا مشّعة، متألقة، مصدراً للأمل وعنواناً له.
 أحبك جداً، يا دانة الدنيا وجنتها.
 يا سيدتي الجميلة، دبي.