أكتب لأن في هاتفي أحرف عربية

أصدقائي ثلاثة


أمّا الأول،  فهو الوفي حقاً، الذي كلّما غاب عاد مشعاً، سعيداً ومبتسماً. وحده يجلس معي كل ليلة حين يغيب الآخرون، وهم دائماً ما يغيبون. نتحاور ونتعاتب، نتناقش وأحياناً كثيرة نذهب للنوم دون أن نتفق، فنعود في الليلة التي تليها لنتصالح ونعتذر. وحده يحفظ كلماتي كلها، التي كتبتها والتي لم أكتبها. وحده الذي كلّما غبتُ عن حبيبتي، كان يواسيها، ويمسح على رأسها، ويخبرها كم كنتُ أحبها. هو الذي علّمني الكتابة، واللباقة، والغناء. هو وحده من علّمني الحب. وحده القمر، يعرف أسراري كلها.

أمّا هي، فوفيةٌ أكثر منه. هي لم تغب عنّي ولو ليومٍ واحد، ولا أظن أنها سترحل أبداً قبل أن أرحل أنا. وحدها رافقتني كل صباح منذ يوم ولادتي، فكانت أوفى من كأس الحليب، ومن كوب القهوة، ومن الشوارع الفارغة، والقلوب الخاوية. وحدها أذاقتني الألم، وشافتني منه. ولم يكن أحداً صريحاً معي مثلما كانت هي. قالت لي ذات يوم بأن رحلة البحث عن نفسي لن تتوقف أبداً، وفي الغالب فإني لن أجدها أبداً. وحدها الشمس، حملتني حين وقعت، واحتوتني من بردٍ كاد يوماً يسرقني، فيحطمني وينهيني.

أمّا الأخير، فهو الأوفى على الإطلاق. هو ليس صديقي فحسب، بل صديق أبي وأمي من قبلي. هو الأقدم، والأصدق، والأعمق. وحده الذي يسمع ولا يتعب. وحده الذي كلّما أتيته باكياً، لا يسألني عن السبب، بل يحتضنني لأبكي أكثر، حتى أغرقته دموعي. وحده الذي كلما ذهبتُ بعيداً، لاهياً في زحمة الحياة وصخبها وشقائها، أجدني عائداً إليه، لاهثاً، متعرّقاً، متعباً جداً. لم أكن أبداً صادقاً مع أحد مثلما كنتُ معه. وحده يعرف تفاصيل وجه حبيبتي، ويحفظ صوتها. فلم أذهب معها إلى مكانٍ، إلا وقد كان معنا. وحده البحر، يعلم كل شيء.

أنا لا أفتقدهم أبداً، فهم دائماً هنا.

أحببتها وحدي



أصبحتُ لحظتها أسعد مخلوقات الكون بأكمله، حين قالت لي نعم. حين قبلت بي رجلاً في حياتها. أصبحتُ وكأني ألتقي الحب لحظتها لأول مرة، وكأني أراهُ أمامي، ملاكاً، لا يشبه شيئاً، ولا يشبهه أحد. لابد لأنها لم تكن ككل الذين مرّوا من هنا، بجوار قلبي أو بداخله. كان لابد لي أن أتبدّل لها، أن أصبح مختلفاً لاختلافها. هي الطفلةُ التي لعبنا أنا وهي في أحد أيامنا القديمة عند زاوية المكان. يومٌ لن أنساه ما حييت. هي المزعجة التي جعلت من الهدوء شيئاً قبيحاً. هي الابتسامة التي إذا حضرت، تغيب الشمس خجلاً وارتباكاً. هي النور الهادئ، والنهر الساكن، والمطر الخريفي البارد.

حبيبتي التي أحببتها لوحدي، دون مشاركة أحد. حبيبتي ذات القلب الخجول، والروح الهادئة، والوجه المريح. حبيبتي التي في صوتها تنام كل إناث الأرض، ومن كفّيها كل صباح يصحو جميع رجالها، لينطلقوا، وأبقى أنا هناك لوحدي أنام إلى الأبد. حبيبتي التي حَسِبْتني حبيبُها، حتى غيّرت رأيها، في لحظةٍ كنت الأتعس فيها، والأكثر رعباً، والأسوأ حظاً على الإطلاق.

كل شيءٍ حدث بسرعة. عرفتها، فوجدتُ نفسي، فأحببتها، ورضت بي، ثم حين رأت أجنحتي تتفتح، قامت بكسرها دون أن تستأذنني، فأضعتُ نفسي من جديد، وكأني لم أعد أعرفها.

ماذا حدث، لا أعلم. أين ذهبت، لا أعلم. إلى من تحدثت، ماذا رأت، لا أعلم. لا أعلم سوى انني فقدت في تلك اللحظة الكثير من حياتي التي رأيتها تتراقص أمامي. فقدت في تلك اللحظة الرغبة بالشعور، والعمل، والحلم، والصلاة، والدعاء، والأمل. فقدت في تلك اللحظة دون أن أشعر، الرغبة في كل شيء، وأي شيء. حدث ذلك منذ سنوات، إلا أنّي أكتب الآن فقط لأني وأخيراً أدركت كم تغيرت حياتي منذ تلك اللحظة. حدث كل هذا، ومضيت في طريقي الذي اختلف، ووقعت مئات المرات في الطريق من دون أن أسقط.

أنا لا أعتب عليها لأنها ابتعدت فجأة، بل لأنها أخذت معها الأمل الذي كنتُ أتكئ عليه. وأخذت معها المستقبل الذي كنت أجري بفرحٍ إليه. وأخذت معها اليد التي نمت فيها لوحدي، فانطلقتُ أنا، وعاد الرجال جميعهم ليناموا في مكاني.

حبيبتي التي أحببتها لوحدي دون مشاركة أحد، أحبّتهم جميعاً وكَرِهَتني. تركتني لأمضي وحيداً، ليس في قلبي أحد.

لحظات تمر عليك

في الحياة هناك لحظات تمر عليك، ببطء أحياناً، وأحياناً أخرى بسرعة، تأخذك لموقعٍ مرتفعٍ عن ما أنتَ عليه. تأخذك لتنظر لحياتك من الأعلى. من كل الجوانب التي لا يراها الإنسان من مكانه الطبيعي. وكأنك في لحظتها إنساناً آخر، ينظر في عددٍ هائلٍ من المرايا، ولا يرى أحد، ومراتٍ أخرى يجد في زاويةٍ واحدة من تلك المرآة، كل أحد. ماذا فعلت. ما الذي قُمت به، الآن، وبالأمس. البارحة، وما قبلها، ومنذ ولادتي. لِمَ أنا فعلاً هنا، وأين أريد أن أكون.

 هناك لحظات، تختلي فيها بنفسك، دون أن تدرك أنك حقاً لوحدك. لوحدك تماماً في الحياة. واقفاً هناك دون أن تلتفت، فلا أحد يقف بجانبك على أية حال. في الحياة ازدحاماتٌ مؤلمة، بشرٌ كثر، أيامٌ لا تحصى، وقتٌ قصيرٌ جداً وفراغٌ أعمق من كل هذا. 

هناك لحظات، وهنالك أسئلة، وهناك مخاوف تكادُ لا تنتهي. لحظة تشعر فيها بين الناس بأنك ملكت كل شيء، وحين ينتهي بك يومك في غرفةٍ لا ينيرها سوى شمعةٍ بقرب النافذة، تشعر مثلها بالوحدة، وبأنك حقاً لا تملك أي شيء. أسئلة تكاد تمزق رأسك من شدة قسوتها. ولا شيء يشبه السؤال الأقسى: ثم ماذا؟ ماذا بعد كل هذا؟... لا شيء. أو ربما كل شيء. والفرق بينهما إما كبيرٌ جداً، وإما يكاد لا يُرى. ومن بعدها يأتي الخوف الأعمق على الإطلاق، وهو أن ينتهي بك العمر، وأنت لا تحمل في قلبك أرقّ أشكال الحب. فالحب حياةٌ من دون شك، هو كل الحياة. 

هناك لحظات تمر عليك، تذكرك بكل هذا وذاك، تُميتك وتحييك في لحظات، تعيدك إلى حيث بدأت، لتذكرك لِمَ بدأت. جئنا للحياة دون اختيار، وسنرحل عنها متى تشاء هي. نحن هنا في رحلة انتظارٍ لا أكثر، وكم نحن البشر حمقى، لنستنزف كل هذا التعب، في حين أن كل ما علينا فعله حقاً هو الانتظار. بصمتٍ أو بغناء. بضحكٍ لا ببكاء. فهنا نملك الخيار، هنا فقط، عند الانتظار. أما القدوم والرحيل، والحب من بينهما، فلا يد لنا فيهم، ولا رجاء سيغيّر موعد وصولهم. 

هناك لحظات في الحياة، توقظنا، تفتح لنا قلوبنا، وتبدد كل مخاوفنا. لا نطلب لحظتها شيئاً، سوى أن نمضي في العمر نحمل قلباً، يتوقف متى ما شاء، ولكن يترك للحب مكاناً فيه دائماً، حتى يجد الحب لنفسه مكاناً متى ما جاء، إلى أن يشاء ويتوقف القلب إلى الأبد، قبل أن يحيى من جديد مرة أخيرة.

خربشات الوقت الضائع


رغم كل تلك السنين.. ما زلت أذكر اللقاء الأول، واللقاء الأخير.. وما زلت أحنّ لكليهما.. وما زال قلبي ينبض سريعاً كلما تخيّلت مصادفتك، حتى أصبحتُ أخشى الصدف.. رغم كل تلك السنين.. 
تعلّمتُ في طفولتي ما كان يجب عليّ تعلمه اليوم؛ تعلمتُ الحب، والإيمان به.. وحتى الكذب من أجله.. تعلمتُ الإنسانية التي تناستني.. والخوف الذي هجرني.. علّمَتْني الطفولة، كلّ ما علّمتِني.. كبرتُ بكل أسفٍ، ولم أعد اليوم تلميذ.. 
أنا سعيدٌ لأني عشتها، وحزينٌ لأني فقدتها.. وكم أتوق لاسترجاعها.. كم أتوقُ للعيش من جديد، للسهر والضحك والغيرة والغضب.. للشوق واللقاء والأغاني والقصيد.. ولم أشتق في حياتي لشيءٍ بقدر اشتياقي لحبّات الرمل التي سُكِبَت في كفّي، قادمةً من يداك.. رغم كل تلك السنين.. 

_____________________________

مضت سنواتٍ طوال منذ أن رأيتُ وجهكِ آخر مرة.. عبرتُ خلالها الكثير من البحور، وكتبتُ العديد من القصص التي لا تخصني، حتى نسيتُ من بعد وجهكِ، وجهي.. ثم جلستُ في ليلةٍ باردةٍ ميّتة، بعيداً عن المدينة، بعد السنين الطوال، أراقب الهلال الدافئ يذوب ببطئٍ شديد، حتى شعرت بأحجاره الصغيرة تتناثر عند أرجلي.. وإذ بوجهكِ يظهر فيه، ويزداد وضوحاً كلّما ذاب الهلال أكثر.. رأيت وجهكِ بكل تفاصيله، وفي كل لحظاته.. وإذ بي أعود طفلاً، ثم شاباً، ثم رجلاً من جديد.. رسمتِ لي بوجهكِ في تلك الليلة دون أن تدرين، أجمل لوحةٍ احتضنتها سماء الكون.. احتجتُ في تلك اللحظة لشيءٍ أكثر من ذلك بقليل.. احتجتُ أن أتلمّس اللوحة، بألوانها وخربشاتها.. أن أتلمّس دفئ وجهك، وابتساماته وشاماته.. احتجت ولكن الهلال اضطّر للرحيل، فعدتُ إنساناً بلا ذاكرة، ولا روحاً ولا أحجار متناثرة.. 

بالعربي - خمسة



أتعلمين يا سيدتي معنى أن يصاب أحدهم بالحب منذ أول نظرة، ثم يغرق بعدها بالحب مع كل نظرةٍ جديدةٍ ألف مرة؟ أتعلمين يا سيدتي معنى أن تكون الزيارة الأخيرة إليكِ شبيهةً بالزيارة الأولى؟ يعتبر هذا إنجاز، بل يصل لحد الإعجاز، يا سيدتي. كتبت لهذه المجلة في كل نسخة دون تردد فور أن أُخبرتُ بعنوانها، حتى أصبحتِ أنتِ عنوانها، ففقدتُ الأحرف كلها، وظللتُ الطرقات كلها، وتأخرتُ كثيراً في تسليم هذه المقالة. كيف لي أن أصف حقيقة الحب في بضع كلمات، وكل معاني الجمال في بضعة أسطر. أنتِ يا سيدتي، كالموسيقى الرائعة، لا يختلف أحداً على سحرها. أنتِ كآخر بيتٍ في معلقة خطّها قيس أو المتنبي أو عنترة. أنتِ السماء الممطرة في صحراء العرب، والشمس الساطعة في قلب غيمات أوروبا. أنتِ بلا شك، بقعةَ نورٍ ظلّت طريقها فوصلت إلى هذا الجزء من العالم المكتظ بكل ما هو محبط، حتى أصبحتِ لأهله الأمل، وأعدتِ لهم تعريف المستقبل.

الكل فيكِ يجتهد حتى يشعر بالسعادة التي تمنحينها دون تردد. الكل فيكِ يتوق للقائك في الصباح حتى يتجمل بكِ، والكل فيكِ يتسابق معكِ سعياً للوصول إلى شيءٍ من تألقك. الكل فيك مشغولٌ بتحقيق أحلامه، لأنكِ الأرض التي احتضنت كل الأحلام؛ ولأنكِ مختلفة، فقد اختلف فيكِ البشر، واختلفت أفكارهم وطموحاتهم 
واهتماماتهم. أنتِ أهديتِ الناس أجمل هدية، وأهم معنى للحياة. أهديتهم حب العمل، وحب النجاح، وحب الحياة.

بعيداً عن الأرقام القياسية التي تحققينها كل يوم، وتصدركِ عناوين أغلب صحف العالم كل صباح، ووصول الماليين إليكِ ليروا بأعينهم ذلك السحر الذي سمعوا عنه في مكانٍ بعيدٍ جداً عنك. بعيداً عن كل هذا، أحبكِ لأني أرى فيكِ كرم أهلنا الذين رحلوا، وأرى فيكِ تعب أبناءك المخلصون. أحبك لأنكِ الصباح الذي أشرق على من سهروا يعملون من أجلك، ولأنكِ الدواء الذي يشفي من أنهكته مزح الحياة الثقيلة. أنتِ المرأة التي تبذل الكثير من الجهد حتى يخرج ضيوفها من بيتها وهم سعداء مبتسمون، فتشتاق إليهم فور خروجهم. أنتِ الطفل 
الرضيع الذي يُنسي الأب همّ يومه المتعِب. أنتِ المثل الأعلى، وسقف الطموح. أنتِ القدوة، وعطر الروح.

حين فزتِ باستضافة أكبر معارض العالم وأحد أهم أحداثه، وبعد أن شاهدت وسمعت مباركة كل العرب لكِ ولشعبك، وسعادتهم الغامرة التي كادت تفوق سعادة أبنائك، نظرت لصديقي وقلت: يحبونها كثيراً. فقال لي: لأنها تحبهم، تحبهم جميعاً.

أدعو الله أن تبقي هكذا مشّعة، متألقة، مصدراً للأمل وعنواناً له.
 أحبك جداً، يا دانة الدنيا وجنتها.
 يا سيدتي الجميلة، دبي. 

فكرة


حفر الإنسان البئر كي يخرج منه الماء، وصنع الطائر العش كي يحمي فراخه، وخلق الله عقل الإنسان حتى يفكر به. فإن فرغ ما ذكرنا مما يحتويه، لم يعد له فائدة، أو على الأقل يكون قد تخلص من قيمته الحقيقية.

عقلٌ تملؤه الأفكار الجديدة هو عقلٌ مليءٌ بالحياة، وعقلٌ جديرٌ بها. السعادة بالنسبة لي ليست في الحصول على ما أريد، فقد أحصل على كل شيء دون أن أفعل أي شيء. السعادة غير مرتبطة أبداً بالنجاح أو الفشل، بل بالاستمرار الدائم في العمل. مسكن الإيمان والشغف في نظري  هو في العقل والقلب معاً. في لحظات قد تهزم، وتسقط، وتتألم، ولكن أن تملك الإيمان بنفسك وقوتك، بأنك قادرٌ على العيش مع كل هذه الظروف، وتخطيها، والمضي بعيداً عنها إلى مكانٍ آخر وتجربة أخرى، هنا تكمن كل السعادة. مع كل فكرة جديدة تخطر في بالي وأجدني مشغولٌ بها، أكون قد وجدتُ نفسي أكثر، وأحببتُ نفسي أكثر، وآمنتُ أني على قيد الحياة فعلاً، وكل ذلك يضيف المعنى والقيمة لحياتي ووجودي. نحنُ بشر، وإن كنا لا نحمل هم الأفكار 
التي تدور في أذهاننا، وهم أن لا تكون في أذهاننا فكرة نؤمن بها، تتعبنا ونتعبها، فأين الفرق بيننا وبين الحجر من حولنا!

أنا سعيد، لا لأنني أحب عملي، أو أنني قادرٌ على المشي، أو أنني أملك الكثير مما أريد، أو أن لدي أفضل الأصدقاء. أنا سعيد، لأنني في كل ليلة، أحارب النوم بسبب الأفكار التي أريد أن أحولها إلى واقع، والأماني التي أريد تحقيقها، والعمل الكثير الذي على القيام به في اليوم التالي. أنا سعيد، لأني أشعر بقيمة الحياة الحقيقية، وأرحب دائماً بكل فكرة جديدة، وأقبل التحدي في أغلب الأحيان.

نكبر كل يوم، لنجد أفكارنا التي كنا نؤمن بها قد تغيرت، وأن الحال قد اختلف. وأن وجهة نظرٍ لطالما تمسكنا بها، لم تعد اليوم مهمة. وهنا تكمن في اعتقادي متعة الحياة. أن نتقبل أنفسنا في كل وقت، وأن نمضي بمرونة بين الأفكار المختلفة والتي قد تعارض معتقداتنا. أن تفتح أذرع عقولنا على كل ما هو جديد، وكل ما هو غريب. أن نؤمن بوجود الاختلاف، وأن الآخرون ليسوا نحن، هم فقط مختلفون. التنوع رائع، فقد لا أتفق أو حتى أتقبل كل ما أسمع، وكل ما أقرأ، وكل ما أرى، ولكنه حتماً سيغذي معرفتي، وعليه سأبني أفكاري، وسأملأ به جرأتي.

من عاش من دون أن يؤمن بفكرة، ولو واحدة، يكون قد حرم مخلوقاً آخر من أحقية العيش كإنسان. 

ليس أسوأ من الموت سوى أن تموت وأنت ما زلت على قيد الحياة. 

بالعربي

في افتتاح مهرجان المسرح الخليجي هذا العام، صرح صاحب السمو حاكم الشارقة بكلمة رائعة تجاه المسرح والفن حيث قال: "المسرح يطهّر الناس من أوجاعهم". ويقول الفنان العالمي بابلو بيكاسيو: "الغرض الحقيقي من الفن هو غسل غبار الحياة اليومية من نفوسنا". أما أنا، فأعتقد أن الفنون بكل أشكالها، هي الدواء للعديد من مشكلاتنا ومصاعبنا، وهي السعادة في الحياة وروحها الحقيقية. فالعالم من دون فن، كصخرةٍ سوداء مغبرّة تعيق على الناس الطريق، والمدينة من دون فن كلوحةٍ بيضاء فارغة أضاع صاحبها فرشاته، والإنسان من دون فن يبدو جافاً شاحب اللون والمنطق والتفكير. الفن بكل أشكاله، الكتابة والرسم والغناء والتمثيل والنحت والرقص والتصوير والإلقاء والإخراج وحتى الإبداع في الطهي أو الرياضة أو الاختراع، كلها فنون تضيف إلى 
حياتنا حياةً إضافية، وتذكرنا بجمال الحياة حين تُقفل في وجوهنا أبواب السلبية.

تحتضن دولة الإمارات العربية المتحدة عدد كبير من الفعاليات والمعارض الثقافية والفنية في كل عام، وأصبحت الإمارات
 اليوم وجهة فنيّة يقصدها العديد من الفنانين والمهتمين بالفن من كل أنحاء العالم وهي تصر على التواجد بقوة في شتى مجالات الحياة ولاسيما الفنية منها، وما هذا إلا دليل واضح على اهتمام الدولة بالفنون، والإيمان التام بأهميتها وقوة تأثيرها الإيجابي على الأفراد. وتعد أيضاً استضافة الأحداث الفنية تشجيع علني لشباب الإمارات بالبحث عن أنفسهم من خلال الفنون الجميلة، خصوصاً بعد بروز عدد من الأسماء الإماراتية اللامعة في هذا المجال. ويأتي إطلاق مشروع "دبي تتحدث إليك" والذي أُطلق مؤخراً لتحويل دبي من مدينة للمال والأعمال إلى مدينة تحمل الفن والجمال في قلبها كما تحمل قاطنيها ومحبيها. إطلاق هذا المشروع ما هو إلا تأكيد على أهمية تواجد الفن بشتى أنواعه في حياة الإنسان، وما قد يضيف من طاقة إيجابية لممارسيها وحتى الناظرين إليها.

الفن هو اللغة الوحيدة التي يتقنها العالم بأكمله ولا تجمعهم عادات أو معرفة أو ثقافة معيّنة، إنما يجمعهم جمال ما قد يرونه من خلال لوحة أو يشعروا به من خلال قطعة موسيقية أو عرضٍ ما. الفن أداة للتعبير عن رأي أو فكرة معيّنة بطريقة مختلفة أكثر حيويةٍ وإقناعاً. الفن قد يلهمنا نحو أفكارٍ جديدة، وأهداف جديدة. وكم أتمنى أن تهتم مدارسنا بالفنون كما تهتم بالمواد العلمية، وأن تؤمن بأهميتها في تطوير شخصية الطفل ومهاراته وأفكاره وإحساسه. لا يكتمل مجتمع من دون تواجد الفنانين فيه، ولا يلمع وطن إلا بقلم كتّابه أو ريشة رسّاميه.

أن تصبح فناناً حقيقياً يعني أن تبدأ بطرق أبواب الإبداع، وأن تصبح مبدعاً يعني أن تتخلى عن خوفك من الفشل. لكي تصبح فناناً، عليك أن تكتسب ثلاثة أشياء: الخبرة والمعرفة والشجاعة المطلقة. 

كانت هناك


كانت هناك امرأةٌ يوماً..
وكانت هناك حياة..
وكان الليلُ مضيءٌ 
وكان العمر مليءٌ بالضحك، والعطر، وأحن الذكريات..

كانت الأزهارُ تفرح، والعصافير في وسط الأزهار تسبح..
والعناقيدُ تتدلّى، والمصابيح تترنح..

تلك اللوحةُ رُسِمَت، بِيَد السماء مرة.. تلو مرة.. تلو مرة..
تلك اللحظة كررت نفسها ألف مرة..
حين جلسنا معاً، أنا وصديقي الشعر.. وتلك المرأة..

وبعد المرة الألف، انسحب الشعر منّا..
وصّب علينا القدر همّاً لا يودّعنا..
وارتمت في احضانها ترانيمُ تشييعنا..
وحضرت الملائكة، وحضر الموتُ ليأخذني..
حتى لا أراها ترحل، فأبقى على قيد الحياة دون حياةٍ تجمعنا..

رحلت.. في غمضةِ عينٍ رحلت..
فلا حبُ تذكرت، ولا حبُ عليه حنّت..
ولا تذكارُ أبقت لي، ولا قصيدةٍ تركت..
وأنا الآن هنا، بعيداً عن الأزهار..
قريباً من الأرض التي، يُدفَن فيها الأحرار..
فلا عمرُ تبقّى لي، إن لم نكن معاً..

ولكن سأنسى قليلاً..
بل سأنسى كل شيء، كل الحزن والألم..
وسوف أحبها دوماً..
ولن أذكر إلا الشعر، إلا سعادتي حينما
كانت هناك امرأةٌ يوماً.. 

بالعربي





في نهاية العام الماضي شهد العالم رحيل أحد أشهر القادة الذين مروا على الكرة الأرضية عبر التاريخ. كان نيلسون مانديلا قائداً للثورة الأفريقية ضد العنصرية، وسعى من خلال مبادراته وتحركاته وأفكاره بأن يغيّر نظرة العالم تجاه أصحاب البشرة السوداء. أمضى مانديلا ما يقارب الثلاثون عاماً في سجون أفريقيا الجنوبية، لكنه حرر بعد ذلك الملايين من البشر، هو ومن كانوا معه، بإصراره وإيمانه بأنها القضية الأهم في ذلك الوقت، وإيمانه بأن الحل قد يكون بيديه. وفعلاً حدث ذلك بعد سنواتٍ عديدة من الصراعات التي انتهت بالإفراج عن مانديلا وأصدقائه، وبعد ذلك اختياره رئيساً لجنوب أفريقيا كأول رئيس أسود لها. تلبّس مانديلا خلال سنوات المقاومة برداء الصبر، والإصرار والعزيمة، كسب ثقة من حوله والعالم أجمع، من خلال أسلوبه في الحديث، ومن خلال أفعاله التي غيّرت نظرة العالم بأسره.
أما غاندي، أبو الأمة كما يلقّب في الهند، فقد كان قائداً مختلفاً في منتصف القرن الماضي. قاد غاندي الثورة الهندية ضد الاستعمار البريطاني بطريقة سلمية وفريدة من نوعها، وكان يحض دائماً  على الابتعاد عن العنف. لم يقُد بالسلاح، بل قاد بالإنسانية المتدفقة فيه، وكان ولا زال رمزاً للحكمة والصدق والسلام. وكلنا قرأنا عن قصة حذاء غاندي الذي رماه خلف حذائه الأول الذي سقط منه وهو يركب القطار حيث قال: "أحببتُ للذي يجد الحذاء أن يجد فردتين فيستطيع ال
انتفاع بهما، فلو وجد فردة واحدة فلن تفيده." طبّق غاندي في هذا الموقف أحد أشهر مقولاته عبر التاريخ: "كن أنت الاختلاف الذي تريد أن تراه في العالم".
وإذا ما أردنا للقيادة مثالاً أقرب لنا ولمجتمعنا، فلن نجد مثالاً أعظم من زايد بن سلطان. ذلك الزعيم الذي وبرغم بداوته وعدم تلقّيه للتدريس والعلم كغاندي ومانديلا، إلا أنه دون أدنى شك كان يحمل في ذهنه الكثير من الحكمة، والرغبة في إحداث التغيير في المنطقة، وقد نجح في ذلك بشكلٍ كبير. زايد تحدّى الإنسان، وتحدى الزمان والأرض، وهزمها جميعها. وحّد المتفرقون، وكوّن دولة، وزرع ثم حصد، وطناً أصبح اليوم نقطةً مضيئة تنير العالم أجمع. أحببنا زايد لأنه قادنا بحب، وأشعرنا بالأمان، وآمن بالإنسان. أحببنا زايد، لأنه وعد وأوفى، وفعل قبل أن يقول.
 وقائمة القادة المختلفون عبر التاريخ تطول، وهم أفراد سيظلون هنا معنا مهما طال رحيلهم، لأن ما تركوه بيننا أعظم من أن يرحل. يقال: على كل مدير أن يكون قائد، ولكن ليس بالضرورة أن يكون كل قائد مدير. أنا أؤمن أن الإنسان لا يدرس القيادة، بل تولد معه. ولكن هذا ليس عذراً لنا بأن نتوقف عن المحاولة. الحياة ليست نجاح وفشل فقط. أن تعيش هو أن لا تتوقف عن المحاولة، وهذه من خصائص القائد الناجح كذلك. القائد هو من يشعر بمن حوله قبل نفسه، ومن يعمل للمجموعة قبل الفرد، ومن ينظر للغد واليوم معاً. على القائد أن يكون قدوة، وأن يعمل أكثر مما يتحدث. القائد الحقيقي هو من يؤمن بقدراته وإمكانياته، ويلاحظ أخطائه قبل الآخرين. القائد الحقيقي  هو أنت إن أردتَ أن تكون. كلنا بحاجة لقائد، وكلنا بحاجة لقدوة. كن أنتَ القائد الذي تريد أن تتبع، وكن القدوة التي تريد أن تقدّس. نحن في الإمارات حظينا عبر السنين بقيادة فذة وفي جميع المجالات، وبسببهم وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. حان الوقت أيها القارئ الكريم، بأن تنضم إليهم. كل ما عليك أن تفعله في البداية، هو أن تكون مختلفاً.
 يقول بيرناردو باروش: "ملايين شاهدوا تفاحة تسقط، لكن نيوتن وحده سأل لماذا".

يناير، واحد وثلاثون



عامٌ جديد، ويوم أول كبقية الأيام السابقة. فرصةٌ أخرى، فرصةٌ أولى
 للبحث عن جديد. عامٌ سابقٌ غريب، وعامٌ قادمٌ أغرب. 

لا شيء سوى مشيٍ من دون هدف، وكأن ذلك هو الهدف.

أتذمر، ثم أرى العالم، فأستريح.

أنا والشوقُ أعداءٌ إلى الأبد، نكره بهضنا البعض.
 يُعاقبني كلما تجاهلته، ويؤسفني أن لا أفهمه.

ليست الحياة قصيرة إلا لمن اشتاق الرحيل.

لدي من الأصدقاء ما لا يملك أحد، وأنا أشدهم تقصيراً.
 أطلب المعذرة في سري، وأقسو في العلن كثيراً.

وحده البحر يعلم كل شيء. 

الحياة مدهشة وكريمة، إلا أن الإنسان سرق منها الكثير حتى تركته ورحلت.

سقوطٌ إلى الهاوية، ثم راحةٌ طويلة، طويلةٌ جداً. 

هذا العمر يشارف على البداية في لحظة، ويقترب من النهاية في أخرى.
 ونحن لسنا سوى منتظرون بين اللحظة والأخرى.

طريق النجاة والخلود وعر، ولم يستطع أحد الوصول إلى آخره حتى اليوم.
أتينا للدنيا لنقومَ بعملٍ واحدٍ فقط، أتينا لنختار.

قضيت السنين وسأمضي ما تبقّى باحثاً عن نفسي،
 ولا أظن أني يوماً أجدني. 

أحسب أني في الحياة أتعلم، وأجد أني في الحياة لا أعلم شيء.
 نحن صغار مهما كبرنا، نكبر ونزداد صغراً.

صمت، ما لنا إلا الصمت بينهم.

نظن النهاية بعيدة، إلا أنها أقرب إلينا من أي شيء.
 نمضي، ولا نتوقف إلا عندما نرفض التوقف.

نجد الأمل في من نحب، ونجد من نحب وسط عالمٍ مليءٍ بالكره.
 ليس المهم أن نجد، المهم أن نظل نبحث.

وحدهم الأحرار الحقيقيون، هم من يعلمون عن الحياة كل شيء.
 أما نحن، نكبر كل يوم ويزداد ابتعادنا عن الحرية.

أرى هدفي أمامي، لكني لا أرى الطريق إليه. 

لا شيء أصعب من موت العزيز إلا رحيله.
 الموت صعبٌ، ولكن الرحيل مؤلم.

تمنيت لو كانت الحياة مجرد نجاحٍ وفشلٍ فقط،
 لكننا نمضي ولا ننتهي منهما أبداً. 

حب الحياة شيء، وتقبّلها شيءٌ آخر.

ما لنا عن الحزن بديل، فهو الشعور الصادق، والألم الكريم.

أريدُكِ حد البكاء، وأنا لا أبكي إلا لموتِ عزيز. إما أن تقبلي
 بي لنبكي طويلاً معاً، أو ترفضيني فينتهي بي البكاء.

رحَلَتْ. فمضى ثقيلاً، كرجلٍ يحمل أرضه على كتفه ومن تحته
 يعرقله فراغٌ لا يكاد ينتهي. رحلت، فغدت السماء مسرحاً
يؤدّي فيه البكاء أجمل رقصاته.

لا يقتلني في الحياة شيءٌ أحدّ من الوقت، ولا يقلقني ولا يبعثرني
سوى صوت الوقت. كم وددتُ لو يتوقف قليلاً، كم وددتُ لو يستريح.

نظن بأن الغد أفضل، وندعو كل يومٍ لغدٍ أفضل،
وننسى اللحظة الآنيّة. نرمي ثقلنا على الغد المسكين،
 وحين يأتي، نهاجمهُ وننظر للغد.

كالمطر في بلادنا أنتِ، نحبكِ ونشتاقكِ طوال العام.
 وحين تأتين، الكل يختبئ منكِ. لا أعلم إن كان العيبَ فينا،
 أم العيب في المطر وفيكِ.

لا صوتَ أحقر من ذاك الذي يطرق باب مخيّلتك
بعد أن كافحت حتى وصلت إلى الطريق،
 فتسمع: أهذا حقاً هو الطريق؟

الحياةُ حلمٌ طويل، وأحياناً أقصر بكثير.
 من فقد القدرة على الحلم،
فقد من الحياةِ الدرب اليسير.

ننتظر طويلاً، وحين تأتي لحظة الحسم نتغاظى
 عنها وكأنا لا نراها، ثم نمضي بقية العمر نوبّخ القدر.

أنا مجرّد إنسان.

الخروج الأخير

 
 
أيا عالمي الصغير الذي أسكنه منذ عام 1989، ها قد حان موعد الفراق. دائماً أردد، أننا نحن من يغادر الأماكن، لكنها لا تغادرنا. وها أنا اليوم أترك المحيط الذي مشيت فيه لأول مرة، وتكلمت فيه لأول مرة، وبكيت فيه مرة تلو المرة.
اليوم أقطع طريقي مع أول من أحببت، ومن سأحب إلى الأبد. مع أول من سكنت، ومن سيسكنني إلى الأبد. اليوم، أرحل عن جدرانٍ كتبتُ عليها كثيراً، ورسمتُ عليها أكثر. كل الأمنيات والأحلام وحتى الخربشات، تلك التي عشتها في طفولتي، كلها رحلت من مخيلتي، ولكنها لن تغادر هذه الجدران. سنين كثيرة جداً، أمضيتها، في كل زوايا المكان. هنا كان المكان الذي شكرت الله كثيراً كلما وصلت إليه. بعد اليوم، لا أعلم كيف سأسلك طريقاً آخر بعد يومٍ متعبٍ جداً. لا أعلم كيف سأفكر في مكانٍ آخر غير هذا المكان. هنا ولدنا جميعنا أنا وإخوتي، وهنا تعلمنا ومن هنا تخرجنا. هذا البناء الواقف، وهذا السرير الدافئ، وهذا الهواء الذي تنفسته لأربعةٍ وعشرون عاماً. 
 
الوداع يا من أحببتنا جداً، ويا من أحببناك بعنفٍ وخجل. وداعاً أيها الحضن الكبير، والقلب الجميل. أودعك اليوم، وأعدك بأن لا أنساك. لن أنسى غرفتي الأولى عند الزاوية المطلة على أقفاص الحمام. لن أنسى اليوم الذي قطعت فيه اصبعي بالسكين وأنا أصنع بيتاً للقطط الصغيرة. لن أنسى اليوم الذي حرقتُ فيه جسمي داخل المطبخ الخارجي. لن أنسى كل الأماكن التي اتخذناها ملاعب عالمية لكرة القدم، ومسارح للدراما والضحك. لن أنسى السيارة الحمراء الصغيرة، والدراجات، وكل ما عاش عندنا من حيوانات. 
 
اليوم ينتهي من عمري عمر، واليوم نبدأ عمراً جديد. دخلت وخرجتُ من هنا آلاف المرات، إلا أنني اليوم، أرتكب جريمة الخروج الأخير. أرحل اليوم إلى منزلٍ جديد. سيكون ذلك منزلي، أما أنت، فستبقى بيتي إلى الأبد.

بالعربي

 
جلست اليوم مع مجموعة من الأصدقاء الذين تحدث بعضهم عن العديد من الأفكار التي يودون لو يحولوها إلى واقع. وتحدثوا أيضاً عن مستقبل مليء بالمصاعب ولكنها مصاعب جميلة لأنهم هم من اختاروها لأنفسهم. وجدتُ على الطاولة مساحة ضخمة من الأمل الذي أحاول جاهداً العثور عليه والتمسك به.
 يحزنني جداً أن أكون ذلك الفتى الذي لا يعرف ماذا يريد. يحزنني أن أجلس مع أصدقائي الذين في عيونهم أرى الطموح العميق، ومن أيديهم يخرج العمل الكثير. ليس غيرة منهم، ولكني أحلم كثيراً بأن أكون في صفهم. كم أتمنى أن أجد ما أريد، وكم أتمنى أن أتخلى عن الجبن الذي يسكنني في مواجهة الحياة، وفي مواجة البشر. أحب الكتابة، ولا أعلم عنها شيئاً. أحب الإعلام، ولا أقترب منه أبداً. أحب تنظيم الفعاليات، وابتعدت عنها جداً.
أنا أحلم كثيراً، وأتخيل كثيراً، وفي أغلب الأحيان أصاب بالإحباط بعد فشل ذلك الحلم. لكني مؤمن تماماً أنه لابد لأحلامي أن تتحقق يوماً ما. أنا أكتب اليوم لا لأشارككم همّي، بل أكتب لكي أحث نفسي وأمام الجميع، على العمل أكثر، وعلى البحث أكثر، وعلى القراءة أكثر فأكثر. أكتب، لكي أتحدى نفسي قبل الجميع، بأني قادر على الرجوع يوماً ما لأمزق هذة الصفحة بابتسامة، بعد أن أجد نفسي.
يقول صديق لي أن كل العظماء الذين سمعنا أو قرأنا عنهم، لم يصبحوا كذلك فقط لأنهم كانوا فقراء أو عانوا في طفولتهم، بل لأنهم وضعوا أمامهم التحديات الكثيرة، ثم تغلبوا عليها. كلنا فقراء ولكن بطرق مختلفة. كلنا محتاجين ولكن لأشياء مختلفة. لابد أن تمر على حياتنا لحظة توهان، لا نعلم فيها من نكون أو ماذا نريد، وعندما نضع أمامنا التحديات التي نثابر للتغلب عليها، سنجد في منتصف الطريق ذلك الضوء الذي لطالما انتظرناه، أو ربما كان ينتظرنا. سنجد نفسنا التي نحب، والتي نشتاق، والتي سنعيشها حتى آخر العمر.
في حياتنا أمثلة كثيرة لأشخاص أو ربما عظماء، فشلوا في أمور عديدة قبل أن ينجحوا في الشيء الذي وضع أسمائهم داخل كتب التاريخ. من الجهل أن يقف الإنسان عند أي حدٍ كان. من يملك القدرة على الحلم، فهو يملك المستقبل بأكمله.
والمستقبل أيضاً ملك أولئك الذين يظنون أن كل نهاية، ليس سوى بداية أفضل. في الحياة نواجه العديد من المطبات التي قد تعرقل خططنا وأهدافنا، أما أنا فأرى أن في كل مطبة نواجهها، تكمن البدايات الجديدة. هناك صنفان من البشر، الأول يظن أن مواجهة المطبة تلو الآخرى تضعفه وتوحي بقرب النهاية، والثاني يظن أن مع كل مطبة، تُخلق مئات الفرص الجديدة للبحث عن أهداف أكثر وطموحات أكبر. فأيهما أنت، وأيهما تريد أن تكون؟
أكره المثالية وأحاول الابتعاد عنها قدر المستطاع، لكني مؤمن تماماً أن التمسك بالأمل هو سر التفوق في كل شيء. ومؤمن أيضاً أن البحث الدائم عن البدايات الجديدة يبعدنا كثيراً عن النهايات المؤلمة. ومؤمن أخيراً أن الغد دائماً أجمل، بإذن الله.
 
يقول محمود درويش "على قدر أحلامك تتسع الأرض". احلموا يا أصدقائي، وأنا سأحلم معكم. ثابروا، وسأثابر معكم. آمنوا بأنفسكم، لأني مؤمن أننا جميعاً مختلفون، خاصة أنتم يا من تقرأون حروفي هذه الآن.
الحياة في نظري شيئان، فرصة ولحظة. فلنتمسك بالأولى، ولنحلم بالثانية حتى نعيشها.

مجرد حقيقة

 
 
أكرهك. أكرهكِ جداً. فأنتِ لم ترحلي قبل سنين عديدة فحسب، بل قتلتِ برحيلك عدداً هائلاً من الآمال والأمنيات. عثرتُ على كل شيءٍ من بعدك، كل شيءٍ سوى أغلى الأشياء. أتعلمين أنكِ، حتى وبعد كل تلك السنين، ما زلتِ الوحيدة التي بادرتها بالحب؟ وكم أخاف أن تبقي كذلك. رغم طفولتنا الساذجة، إلا أني أقسم بأني أحببتك، وأقسم أني نسيت شكل ودفء الحب من بعدك. كنتُ طفلاً تائهاً حين عثرتِ علي في قلبك، ولم يتغير شيء منذ تلك اللحظة، إلا أني ازددتُ ضياعاً وتوهان. تذكرين حين وعدتني بأني سأجد من هي أفضل منك؟ مضت السنين ولم أعثر على أحد. حتى حين رحلتِ، وعدتِ فكذبتِ. 
 
أتعلمين، كآبتي التي أمارسها منذ حين، ظننت أن سببها العمل، أو الحياة أو الملل. ولكني في هذه الليلة، أدركت أن لا سبب لكآبتي سواكِ. أدركت كم أنا محيطٌ فارغ، وصحراء مشتعلة. لن ألوم نفسي على كل فتاةٍ أحبتني، ثم سقطت سهواً حتى بقيتُ لوحدي. ألومكِ أنتِ، فقد أتعبتِ الذائقة من بعدك. أتعبتِ القلب الذي بات حجراً بائساً عديم النفع والفائدة لا ينبض إلا نادراً. أتعبتِ الحب الذي بات كذبةً تنام في الأغنيات والروايات لا أكثر. أتعلمين أنهم ما زالوا يتحدثون عن الحب كثيراً، وما زلت لا أرى إلا وجهكِ في كل مرة. وفي كل مرة، أموت مئة مرة. 
 
أعلم جيداً أنكِ لن تقرأي ما كتبتُ هنا أبداً، ولن يتغيّر شيء أبداً. سأظل أنا هنا، أندب حظي. أقاتل البرد الذي خلّفتِ. سأظل هنا، أغني إحيائاً للحب كل صباح، وأرثيه حين يموت كما اعتدتُ في المساء. أكرهكِ، لأني أشتاقُ إليكِ. وأشتاق إلي معكِ. وأشتاق لكل الأيام التي بدأت بكِ، وانتهت عندكِ. أكرهكِ، لأنكِ صنعتِ مني رجلاً لا يخشى الحب، وحين أصبحتُ جاهزاً للمعركة، انسحبتِ. أكرهكِ، لأننا تندّمنا بعيداً عن بعضنا. تخيّلي فقط كم كان سيكونُ جميلاً لو تندّمنا معاً. 
 
أكتبُ الليلة، مدركاً أن لا شيء سيتغيّر. وأني سأصحو غداً، كارهاً صراحتي بقدرِ ما أكرهك. كان بإمكانك أن ترحلي، دون أن تسلبي مني الحب القليل الذي يختبئ فيني، دون أن تسلبي مني ما تبقّى من إنسانيّتي. 
 
أكتبُ الليلة لا لشيء، فقط لتعلم السماء التي كانت يوماً تقف حداً لأمنياتنا، أن الأمنيات اغتيلت، وأني الليلة أكرهك. ولتعلم النجوم التي تقاسمناها جميعها، حتى الميّتة منها، أني الآن أكرهك. ولتعلم كل أرضٍ مشيناها، وكل رملٍ تناقل بين أيادينا، وكل عشبٍ رفعنا وطار بنا، أني اليوم أكرهها جميعها وأكرهك. 
 
أكرهك. أكرهك جداً، لأني مازلت أحبك. 


أنا حرٌ كاذب

 
هل نحن أحرار؟ بل نحن نجيد الكذب، فقط لا غير. كلنا عبيد لماضٍ انتهى منذ زمنٍ بعيد، ولكننا نحاول جاهدين بأن نبقيه إلى أن ننتهي نحن ثم نعود للأرض. كلنا عبيد لما يراه الآخرون، وما يظنه الآخرون، وما يشعر به الآخرون. كلنا مجرمون في حق أنفسنا، وحق رغباتنا وأفكارنا الحقيقية. كلنا مجرورون خلف كلماتٍ اختلقها البشر ليخبؤوا خلفها آمنين. كالحياة مثلاً، مساحةٌ اخترعها البشر ليحمّلوها أخطاءهم وتفاهتهم. من نحن حقاً، وماذا نريد أن نكون. ماذا كتبنا في مذكراتنا الشخصية، وخجلنا من أن يقرأها غيرنا. ماذا رسمنا على دفاتر المدرسة عندما سهينا، وماذا خربشنا حين عدنا لوعينا. نسينا كل ذلك، حين ملأوا عقولنا بما يجب أن نفعله، وما يجب أن نقول وما يجب أن نتعلم وما يجب أن نترك خلفنا ونمضي. كم من أحلامٍ دفنتها أحكام الآخرين. وكم من أقدارٍ بترناها من حياتنا، بأقوالهم وأيدينا. وحدهم الأموات هم الأحرار حقاً، فقد تخلصوا من كل شيء.
 
متى نتحرر من أحكام الآخرين. متى نتحرر من أحكامنا على الآخرين. متى نمضي في الحياة، من أجل أن نمضي فقط. متى نجتهد لمعرفة شخصٍ ما، بكل تفاصيله، قبل الانشغال برمي كل أشكال المذمة على جبينه. متى يصبح الإنسان الآخر، آخر همنا وأولوياتنا، وتصبح الأفكار والأحلام أولها؟ متى نصبح بشر حقيقيون، بعيداً عن المادة التي قتلت في نظري الكثير ممن أخالطهم كل يوم. ميتين يمشون على الأرض، لا أكثر.
 
أيتها الأرض، أعتذر منكِ بالنيابة عن نفسي فقط، فلا شأن لي بكل من حولي. أعتذر منكِ، لأنني حتى الآن أعيش تحت رحمة الآخرين. أعيش ولا أعيش، كما يجب حقاً أن أعيش. أنا حر اليوم، لأني قد أقاوم فعل ما يريده مني الآخرون أحياناً. لكني سأصبح حراً حقاً، حين أقوم بما أريده أنا، ولا أحد غيري. حين أفكر بشيء، ولا يكون آخر من سمع عن الفكرة هو قلبي. حين أتنفس كل لحظة في حياتي كما أشاء، من أجلي أنا وحدي. سأكون حراً، حين أفكر بصوتٍ عالٍ جداً، ولا يكترث أحداً لأفكاري.
 
تحرروا من أنفسكم لأنفسكم، وحرروني معكم. فأنا لست سوى جبان يخشى حتى الخروج من زنزانته التي تحتقره.


خمسة أيام في روما



لم أنتظر أن تطأ قدماي أرض مطارهم حتى أقابل أحد مواطنيهم، فقد ملأوا الطائرة التي أمتطيها نحو عاصمتهم العريقة. كاد يقتلني، ذلك الإيطالي المتذمر الذي يجلس خلفي مباشرةً. تارةً لا يعجبه كأس النبيذ الذي قُدّم إليه. وتارةً أخرى لا يعرف كيف يغيّر القنوات على شاشة التلفاز. والكثير من هذا التذمر صاحب الدقائق الأولى لي على متن الطائرة. أهكذا سيكونون جميعهم عندما أصل إليهم؟
اخترت روما. لماذا؟ لا أعلم. أردتُ أن أختلي بنفسي في مكانٍ بعيدٍ عن دياري. أردتُ  أن أسافر إلى مكان لم أعتد عليه، ولا أعرفه مطلقاً. فأنا لم أزر روما من قبل. كانت فينيسيا هي المدينة الإيطالية الوحيدة التي زرتها منذ قرابة العشرة أعوام. لم تكن مدينة رومانسية أبداً في ذلك الوقت. كانت مجرد مدينة تغرق وسط حرارة الجو التعيس. ربما كنتُ طفلاً آن ذاك، أو ربما هي كذلك حقاً. في البداية كنت أريد الذهاب لمكانٍ يخلو من كل شيء إلا من الطبيعة الخلاّبة والبحر. أردتُ أن أختلي، أن أرمي كل ما في ذهني في مكانٍ بعيدٍ جداً، وأعود بلا ذهن. ثم قلت في نفسي: ولكني أحب أن أشاهد الناس، وأسمعهم، بضحكهم وحزنهم. ولا أجمل من الطليان في صخبهم وضحكهم وطريقة حديثهم. هذا على الأقل ما شاهدناه في التلفاز. كلنا نحتاج البشر، حتى نعلم من نحن حقاً، وأين نحن حقاً من هذا العالم.
ها أنا الآن لوحدي، وسط طائرةٍ تعج بالطليان، العائدين إلى بيوتهم وصخبهم وعروبتهم الأوروبية. وها أنا أرحل معهم لبضعة أيامٍ قليلة، تصاحبني بعضاً من أشيائي وقليلاً من الكتب. ويصاحبني كذلك رأسي الذي يعج بالأفكار والقصص والقلق. مزدحمٌ جداً هذا الرأس بما فيه. أتيت هنا، لأفرغهُ في إحدى النوافير أو المتاحف. أتيتُ لأفرغه وسط بشرٍ لا أعرفهم، وبلدٍ لا أعرفها. اخترت أن أسافر لوحدي. لطالما أردتُ ذلك. لطالما أردتُ أن أستمتع ولو لمرة واحدة، بأصواتٍ لا أعرفها، ولا أعرف ما تقول. لطالما أردتُ أن أكتشف لوحدي، أن أتوه لوحدي، أن أمشي وأمشي بعيداً لوحدي. أن أستمع لما تقوله عيناي عندما ترى كل منظرٍ بديع. أن أشعر بشيءٍ جميل، ثم أبتسم لوحدي، كالمجنون، دون أن يسألني أحد: ما بك. أنا أجلس على هذا المقعد الآن لوحدي، رامياً كل شيءٍ خلفي. منتظراً بكل شغف، ما ينتظرني هناك، في بلاد المجانين.
قضت الساعات في الطائرة بسرعه ولم أشعر بها. فقد قضيتها بالكتابة قليلاً، وبالقراءة قليلاً، وبمشاهدة بعضاً من الأفلام قليلاً. حتى قررت أن أفتح النافذة، لأرى تلك الأنوار الرائعة. بدت روما جميلة جداً من السماء رغم حلول المساء. أنوارها أتت على شكل دوائر، وبين الدوائر خيطٌ رفيع من الأنوار أيضاً، وكأنها مسارح امتلأت بالراقصين، وتربطهم قلوب العاشقين. كان منظراً رائعاً بلا شك. حتى قررت أن تختفي تلك المدينة وسط غيومٍ ثقيلة، وتحولت أنوار المدينة إلى برقٍ يؤلم العينين. كم كان قريباً ومخيفاً ذلك البرق. كل ذلك كان قبل الهبوط بقليل. دقائق جلستُ فيها أفكر عن ما إذا كانت هذه الرحلة تبدأ بالقسوة هذه، فكيف ستكون نهايتها. إلى أن هبطنا، وعاد كل شيء إلى حاله. ولكني حملتُ شيئاً قليلاً من الخوف معي إلى أرض المطار.
وقفتُ هناك في طابورٍ طويل يعج بالمسافرين المتعبين. ثم ما أن خُتِم على جواز سفري حتى أخذت حقيبتي واتجهت باحثاً عن مركبة أجرة. وقفتُ في طابور طويل آخر، لكن بعد دقيقة يأتيني رجل، يسألني إن كنت لوحدي، أجبت بالإيجاب، فإذا به يأخذ حقيبتي وعنوان إقامتي وراح يحدث صديقه بالإيطالية. بعد ثوانٍ وجدتُ نفسي أجلس في المقعد الأمامي من حافلة صغيرة مع أشخاصٍ لا أعرفهم. يجلس بجانبي رجلٌ روسي يزور روما لثلاثة أيام ليحضر حفلاً لعيد ميلاد أحدهم. وفي الخلف يجلس زواراً من الدانمارك وآخرون إنجليز، يأتون ليقظون في روما خمسة أيام، مثلي تماماً. كيف شعرت؟ لا شيء. في بلدٍ غريب، ومع غرباء، لكني لم أشعر بالغرابة أبداً. أمراً يثير الاستغراب. فأنا الذي أحاول تجنب الغرباء في المكان الذي أعيش فيه، أجد نفسي لا أمانعها في مكانٍ آخر. كل ما فعلته هو الاستمتاع باللحظة. ثم داهمت ذهني بعضُ أفكارٍ مخيفة. ماذا لو قال لي موظف الفندق أن لا حجز لي؟ هل سأقضي أول ليلةٍ لي في روما، في الشارع؟ ثم طردتُ الفكرة من رأسي، وعدت للاستمتاع باللحظة. ينزل الروسي إلى شقته، ثم بعدها بدقائق أنزل أنا في فندقي. تذكرتُ وأنا أستلم مفتاح غرفتي، أني لم أرَ وجوه الأشخاص الذين كانوا يجلسون خلفي في الحافلة الصغيرة. لم أعرف عددهم، ولا شكلهم، ولا شيء عنهم سوى ما خرج من أفواههم إجابةً على أسئلة السائق المجنون. نعم مجنون، كان يحدّث نفسه فالطريق. أو، لا ليس مجنون. فأنا أفعل ذلك في أحيانٍ كثيرة أيضاً.
لم تبدو روما غريبةً في طريقنا من المطار إلى الفندق. وكأني زرتها من قبل. روما تشبه الشام في كثيرٍ من الأحيان. الشام التي زرتها قبل سنين. الشام التي لم تعد الآن كالشام. شوارعها، سياراتها، جنون سائقيها. حتى بعضاً من ألوانها. لا شيء كان غريباً في طريقنا من المطار إلى الفندق.
رميت أمتعتي في الغرفة وخرجت أمشي في شوارع العاصمة العتيقة. استقبلتني روما بالورود. فكل من صادفته في الشارع كان يحمل ورداً أحمر. كلهم احتفلوا بالحب في يومٍ بعيدٍ جداً عن عيد الحب. وبعد دقائق قليلة، استقبلتني روما من جديد، بالمطر. جرى الناس جميعاً يبحثون عن مكانٍ يتظللون به، وأنا معهم جريت. خلت الساحة من البشر إلا من شرطيٍ وقف بلا حراك، مستمتعاً بذلك المنظر. وكأنه هو من أرسل لنا ذلك المطر. هكذا انتهت ليلتي الأولى، في روما. عاصمة البشر والمسيحية والطعام. عاصمة الأرواح الصاخبة والظلام.
أما في الصباح، فقررتُ أن أمشي دون هدف. رغم أني كتبتُ الكثير من الأماكن التي وددتُ زيارتها، ولكن قلت في نفسي، ليس الآن. قادتني أرجلي للشوارع القديمة، والمعالم المحطمة، والسكّان الغاضبين من كل شيء، حتى من أنفسهم. جلستُ في أحد المقاهي، دون الالتفات لأسمه. ففي روما، القهوة كلها لذيذة. جلستُ في زاويةٍ أرى الناس. السعداء منهم والمحبطين. البطيئين منهم والمستعجلين. كان صباحاً جميلاً جداً، قضيتهُ بمشاهدة ما حولي، ومن حولي. ونسيت نفسي تماماً. رميت كل شيء في غرفة الفندق تلك، وخرجتُ لأشعر بالآخرين. جميلٌ جداً أن لا تفكر، ولا تحكم، ولا تقدّر. جميلٌ جداً أن تجلس وأن تمشي، دون أن تقرر. تركتُ كل القرارات لرجلي، رجلي فقط.
عدتُ بعد الغداء إلى الفندق، فقرأت شيئاً من الرواية التي حملتها معي. بدت مدهشة، ولم ينقصها سوى كوباً من القهوة. أخذتها معي لأحد المقاهي في زاويةٍ ما قريبة من الفندق بعض الشيء. جلستُ هناك أراقب السواح يمرون أمامي في حركة سريعة، وآخرون يقفون للحظاتٍ قليلة أمام النافورة الشهيرة، يرمون فيها بعضاً من النقود وبعضاً من أمانيهم، ويرحلون. وما أن مضت دقائق حتى وجدتُ نفسي أغرق في الرواية من جديد، دون أن أشعر بمئات البشر الذين يمشون من أمامي، إلى أن سمعتُ أحدهم يطلب أن يجلس معي ليدخن الغليون. كان رجلاً طويل القامة في الخمسينيات من عمره، يرتدي بنطالاً بني وقميصاً وردي وقبعة الكاو بوي. فمددتُ يدي مشيراً إلى الكرسي. شكرني، ولم أنظر إليه. جلس وشرع هو في التدخين، وعدتُ أنا للقراءة. لمحتُ لاحقاً أنه أخرج نقوداً من جيبه ليعدها، كانت دولارات أمريكية، فعرفت أن وجود تلك القبعة على رأسه لم يكن صدفة. مضت دقائق عدة دون أن يلتفت أياً منا للآخر. إلى أن قاطع قراءتي بسؤاله: من أين تشتري الكتب؟ ظن أني اشتريته من روما. فقلت من بلدي. سألني إن كنتُ سائح، فأجبته: لبضعة أيام، ثم أذهب إلى اسطنبول. ثم سألني إن كنتُ أعرف الروائي دان براون وإن كنتُ قرأت روايته الأخيرة (أنفيرنو)، فأجبته بالسلب. قال أن الرواية وقعت في بعضاً من مدن إيطاليا واسطنبول التركية. تمنى لو أنه كان بإمكانه زيارتها في رحلته السياحية هذه، فقد قرأ الكثير عنها في الرواية، وأُعجب كثيراً بها. تحدثنا بعد ذلك قليلاً عن روما وطقسها. ثم شيئاً قليلاً عن وظائفنا. ثم تمنى لي يوماً سعيداً ورحل. كان ذلك أول حوارٍ لي مع غريب منذ فترة طويلة. تذكرت بعد أن رحل، أني لم أتعرف على أسمه. رغما غرابة الحديث الذي كان سببه روايةٍ ما، إلا إني سعدتُ جداً. لن أرى هذا الأمريكي في حياتي مرة أخرى، وأعلم جيداً أني سأنسى هذا اللقاء وكل ما دار فيه عمّا قريب. ولكنها كانت لحظة جميلة، وكم هو رائع أن نعيش اللحظة الآنية، دون تفكيرٍ بما أتى قبلها وما سيأتي بعدها. عندما أخبرتُ صديقي عن الحوار الذي دار بيني وبين الأمريكي، قال: لمثل هذا يا صديقي، نسافر وحدنا.
وهكذا كانت بقية أيامي في روما. قضيتها بين زيارة المتاحف والكنائس، والتلذذ بالقهوة واقفاً وجالساً، وبين القراءة والاستماع لماجدة الرومي ومحمد عبده وفيروز وعبدالحليم، بعضها لأسبابٍ أعرفها وأخرى أجهلها. هكذا كانت أيامي في روما، المدينة التي أيقظتني، وانتشلتني، وأخذتني لمكانٍ بعيدٍ جداً. لا أعتقد أني كنتُ سأصمد لخمسة أيام لوحدي لو اخترت التوحّد في أي مدينةٍ أخرى. روما بلا شك مجنونةٌ بالحياة، عاشقة لها بكل شكلٍ من الأشكال. روما تملؤها جميع أشكال البشر، والأرواح، والأحلام. هي ثورةٌ في زمنٍ فقد فيه الكثيرون المعنى الحقيقي للثورة. كم هو رائعٌ منظرها وهي تحتضن كل هؤلاء السواح الذين أشاهدهم الآن وأنا جالسٌ في مقعد هذا المقهى المختبئ في أحد الأروقة القديمة. تحتضن الجميع رغم غضب سكّانها من كل شيء. إلا أن غضبهم يشبه لحدٍ كثير حباً ثائراً لا يعرف كيف يعبّر صاحبه عن ما بداخله. في روما لابد أن تتقبل كل أحد وكل شيء كما يأتيك، من دون أن تختلق في ذهنك أية حكايةٍ أو قضية. في روما، استسلمت كما قلت سابقاً، للحظة الآنية، متناسياً كل ما كان يدور في رأسي سابقاً، وكل ما سيأتي لاحقاً. 
في روما، كل الأشياء تتشابه تقريباً. نادراً ما تأتيك البيتزا مقطعة، وإذا أتت كذلك، فاعلم أنها ليست جيدة. في روما، لا تأتيك القهوة حارّة، لأنهم يريدونك أن تنتهي منها وتغادر بسرعة. في روما، الكل يتسوّل بنفس الطريقة. كلهم يبيعون نفس البضاعة. وحتى الموهوبون منهم، فقد تشرّبوا نفس الموهبة. الشوارع في روما مضحكة. لحقني أحد الباعة في الشارع، وسألني إن كنت أتحدث الإيطالية، فنفيت. ثم سألني عن بلدي، فقلت له خمّن، فقال ربما أتحدث لغتك، فقلت أشك في ذلك. فقال السلام عليكم. قلت إذاً أنت تتحدثها فعلاً، فقال لا للمخدرات. ضحكتُ طويلاً ومشيت. ثم اكتشفت أني حتى الآن لا أعلم ماذا كان يريد. 
 
كنتُ أقصد أحد المعالم القديمة في روما حين التفتُ يميناً لأرى درج بعتباتٍ عشر يعلوه باب أخضر عملاق. دخلت من ذلك الباب دون شعور لأجد نفسي في كنيسة. ليس ذلك فقط، بل ويقام فيها مراسم للزواج في تلك اللحظة بالتحديد. لم يوقفني أحد، فوقفتُ هناك أشاهدهم. بابتساماتهم، وغنائهم الملائكي لتراتيلهم الدينية. لا أدري لماذا شعرت بالسعادة. سعدتُ لأشخاصٍ لا أعرفهم. لا تربطني بهم صداقة، ولا لغة، ولا دين، ولا لون، ولا أصل ولا وطن. كل ما كان يربطنا، في تلك اللحظة، هو أننا جميعاً بشر، فقط بشر. أحسستُ لحظتها بجمال الحياة، والمعنى الحقيقي لها. فهم لم يلاحظوا وجودي، ولن يعرفوا أبداً عن شعوري في تلك اللحظة تجاههم. تمنيت لو أننا نستطيع أن نكون كذلك تجاه بعضنا في كل الأوقات، رغم كل الاختلافات. أما كان العالم ليبدو أرقى وأطهر؟  جمال الحياة يكمن في بساطتها، والشعور بالسعادة تجاه الآخرين في لحظة احتفالهم، هو أبسط شعورٍ إنساني يمكن أن يقدمه البشر للبشر.
ذات مساء، قررت أن أتوه. قررت أن أمشي دون عنوان أقصده، أو شعورٍ أدركه. كل ما كنت أريد أن أفعله هو أن أمشي، مؤمناً بقرارات أرجلي، مستمتعاً بألبوم عبدالمجيد الجديد. أحياناً أسرح في وجوه المارة، وأحياناً في أحذيتهم، وأحياناً  كثيرة في السماء الصافية. والمضحك أني توقفت لثلاث مرات كي أساعد السواح في طريقهم، وفي كل مرة كنتُ أجيب: انا لست سوى رجلٍ تائه.
لم أكن أعلم إن كنتُ تائهاً في تلك اللحظة فقط، أم تائهٌ بشكلٍ عام. لكني لم أفكر في الأمر كثيراً، عكس ما كنت أفعله في العادة. لم تكن هذه الرحلة أبداً للتفكير في الأمور المعقدة، بل في أبسطها وأجملها.
غادرت روما، سعيداً بالوقت الممتع الذي قضيته فيها، حزيناً لتوديعها. كانت بلا شك واحدة من التجارب المختلفة. غادرتها تاركاً ورقة في غرفة الفندق كُتب عليها: هذه غرفتي في روما، وهذه حقيبتي وأشيائي. وها أنا الآن راحلٌ لأرضٍ أخرى. عسى أن نلتقي قريباً، في الواقع أو في الأحلام. أحببتكِ من أول نظرة، وسأحبك دائماً.
 
كانت هذه، أيامي الخمسة في روما.