أكتب لأن في هاتفي أحرف عربية

مجرد حقيقة

 
 
أكرهك. أكرهكِ جداً. فأنتِ لم ترحلي قبل سنين عديدة فحسب، بل قتلتِ برحيلك عدداً هائلاً من الآمال والأمنيات. عثرتُ على كل شيءٍ من بعدك، كل شيءٍ سوى أغلى الأشياء. أتعلمين أنكِ، حتى وبعد كل تلك السنين، ما زلتِ الوحيدة التي بادرتها بالحب؟ وكم أخاف أن تبقي كذلك. رغم طفولتنا الساذجة، إلا أني أقسم بأني أحببتك، وأقسم أني نسيت شكل ودفء الحب من بعدك. كنتُ طفلاً تائهاً حين عثرتِ علي في قلبك، ولم يتغير شيء منذ تلك اللحظة، إلا أني ازددتُ ضياعاً وتوهان. تذكرين حين وعدتني بأني سأجد من هي أفضل منك؟ مضت السنين ولم أعثر على أحد. حتى حين رحلتِ، وعدتِ فكذبتِ. 
 
أتعلمين، كآبتي التي أمارسها منذ حين، ظننت أن سببها العمل، أو الحياة أو الملل. ولكني في هذه الليلة، أدركت أن لا سبب لكآبتي سواكِ. أدركت كم أنا محيطٌ فارغ، وصحراء مشتعلة. لن ألوم نفسي على كل فتاةٍ أحبتني، ثم سقطت سهواً حتى بقيتُ لوحدي. ألومكِ أنتِ، فقد أتعبتِ الذائقة من بعدك. أتعبتِ القلب الذي بات حجراً بائساً عديم النفع والفائدة لا ينبض إلا نادراً. أتعبتِ الحب الذي بات كذبةً تنام في الأغنيات والروايات لا أكثر. أتعلمين أنهم ما زالوا يتحدثون عن الحب كثيراً، وما زلت لا أرى إلا وجهكِ في كل مرة. وفي كل مرة، أموت مئة مرة. 
 
أعلم جيداً أنكِ لن تقرأي ما كتبتُ هنا أبداً، ولن يتغيّر شيء أبداً. سأظل أنا هنا، أندب حظي. أقاتل البرد الذي خلّفتِ. سأظل هنا، أغني إحيائاً للحب كل صباح، وأرثيه حين يموت كما اعتدتُ في المساء. أكرهكِ، لأني أشتاقُ إليكِ. وأشتاق إلي معكِ. وأشتاق لكل الأيام التي بدأت بكِ، وانتهت عندكِ. أكرهكِ، لأنكِ صنعتِ مني رجلاً لا يخشى الحب، وحين أصبحتُ جاهزاً للمعركة، انسحبتِ. أكرهكِ، لأننا تندّمنا بعيداً عن بعضنا. تخيّلي فقط كم كان سيكونُ جميلاً لو تندّمنا معاً. 
 
أكتبُ الليلة، مدركاً أن لا شيء سيتغيّر. وأني سأصحو غداً، كارهاً صراحتي بقدرِ ما أكرهك. كان بإمكانك أن ترحلي، دون أن تسلبي مني الحب القليل الذي يختبئ فيني، دون أن تسلبي مني ما تبقّى من إنسانيّتي. 
 
أكتبُ الليلة لا لشيء، فقط لتعلم السماء التي كانت يوماً تقف حداً لأمنياتنا، أن الأمنيات اغتيلت، وأني الليلة أكرهك. ولتعلم النجوم التي تقاسمناها جميعها، حتى الميّتة منها، أني الآن أكرهك. ولتعلم كل أرضٍ مشيناها، وكل رملٍ تناقل بين أيادينا، وكل عشبٍ رفعنا وطار بنا، أني اليوم أكرهها جميعها وأكرهك. 
 
أكرهك. أكرهك جداً، لأني مازلت أحبك. 


أنا حرٌ كاذب

 
هل نحن أحرار؟ بل نحن نجيد الكذب، فقط لا غير. كلنا عبيد لماضٍ انتهى منذ زمنٍ بعيد، ولكننا نحاول جاهدين بأن نبقيه إلى أن ننتهي نحن ثم نعود للأرض. كلنا عبيد لما يراه الآخرون، وما يظنه الآخرون، وما يشعر به الآخرون. كلنا مجرمون في حق أنفسنا، وحق رغباتنا وأفكارنا الحقيقية. كلنا مجرورون خلف كلماتٍ اختلقها البشر ليخبؤوا خلفها آمنين. كالحياة مثلاً، مساحةٌ اخترعها البشر ليحمّلوها أخطاءهم وتفاهتهم. من نحن حقاً، وماذا نريد أن نكون. ماذا كتبنا في مذكراتنا الشخصية، وخجلنا من أن يقرأها غيرنا. ماذا رسمنا على دفاتر المدرسة عندما سهينا، وماذا خربشنا حين عدنا لوعينا. نسينا كل ذلك، حين ملأوا عقولنا بما يجب أن نفعله، وما يجب أن نقول وما يجب أن نتعلم وما يجب أن نترك خلفنا ونمضي. كم من أحلامٍ دفنتها أحكام الآخرين. وكم من أقدارٍ بترناها من حياتنا، بأقوالهم وأيدينا. وحدهم الأموات هم الأحرار حقاً، فقد تخلصوا من كل شيء.
 
متى نتحرر من أحكام الآخرين. متى نتحرر من أحكامنا على الآخرين. متى نمضي في الحياة، من أجل أن نمضي فقط. متى نجتهد لمعرفة شخصٍ ما، بكل تفاصيله، قبل الانشغال برمي كل أشكال المذمة على جبينه. متى يصبح الإنسان الآخر، آخر همنا وأولوياتنا، وتصبح الأفكار والأحلام أولها؟ متى نصبح بشر حقيقيون، بعيداً عن المادة التي قتلت في نظري الكثير ممن أخالطهم كل يوم. ميتين يمشون على الأرض، لا أكثر.
 
أيتها الأرض، أعتذر منكِ بالنيابة عن نفسي فقط، فلا شأن لي بكل من حولي. أعتذر منكِ، لأنني حتى الآن أعيش تحت رحمة الآخرين. أعيش ولا أعيش، كما يجب حقاً أن أعيش. أنا حر اليوم، لأني قد أقاوم فعل ما يريده مني الآخرون أحياناً. لكني سأصبح حراً حقاً، حين أقوم بما أريده أنا، ولا أحد غيري. حين أفكر بشيء، ولا يكون آخر من سمع عن الفكرة هو قلبي. حين أتنفس كل لحظة في حياتي كما أشاء، من أجلي أنا وحدي. سأكون حراً، حين أفكر بصوتٍ عالٍ جداً، ولا يكترث أحداً لأفكاري.
 
تحرروا من أنفسكم لأنفسكم، وحرروني معكم. فأنا لست سوى جبان يخشى حتى الخروج من زنزانته التي تحتقره.