أكتب لأن في هاتفي أحرف عربية

الخروج الأخير

 
 
أيا عالمي الصغير الذي أسكنه منذ عام 1989، ها قد حان موعد الفراق. دائماً أردد، أننا نحن من يغادر الأماكن، لكنها لا تغادرنا. وها أنا اليوم أترك المحيط الذي مشيت فيه لأول مرة، وتكلمت فيه لأول مرة، وبكيت فيه مرة تلو المرة.
اليوم أقطع طريقي مع أول من أحببت، ومن سأحب إلى الأبد. مع أول من سكنت، ومن سيسكنني إلى الأبد. اليوم، أرحل عن جدرانٍ كتبتُ عليها كثيراً، ورسمتُ عليها أكثر. كل الأمنيات والأحلام وحتى الخربشات، تلك التي عشتها في طفولتي، كلها رحلت من مخيلتي، ولكنها لن تغادر هذه الجدران. سنين كثيرة جداً، أمضيتها، في كل زوايا المكان. هنا كان المكان الذي شكرت الله كثيراً كلما وصلت إليه. بعد اليوم، لا أعلم كيف سأسلك طريقاً آخر بعد يومٍ متعبٍ جداً. لا أعلم كيف سأفكر في مكانٍ آخر غير هذا المكان. هنا ولدنا جميعنا أنا وإخوتي، وهنا تعلمنا ومن هنا تخرجنا. هذا البناء الواقف، وهذا السرير الدافئ، وهذا الهواء الذي تنفسته لأربعةٍ وعشرون عاماً. 
 
الوداع يا من أحببتنا جداً، ويا من أحببناك بعنفٍ وخجل. وداعاً أيها الحضن الكبير، والقلب الجميل. أودعك اليوم، وأعدك بأن لا أنساك. لن أنسى غرفتي الأولى عند الزاوية المطلة على أقفاص الحمام. لن أنسى اليوم الذي قطعت فيه اصبعي بالسكين وأنا أصنع بيتاً للقطط الصغيرة. لن أنسى اليوم الذي حرقتُ فيه جسمي داخل المطبخ الخارجي. لن أنسى كل الأماكن التي اتخذناها ملاعب عالمية لكرة القدم، ومسارح للدراما والضحك. لن أنسى السيارة الحمراء الصغيرة، والدراجات، وكل ما عاش عندنا من حيوانات. 
 
اليوم ينتهي من عمري عمر، واليوم نبدأ عمراً جديد. دخلت وخرجتُ من هنا آلاف المرات، إلا أنني اليوم، أرتكب جريمة الخروج الأخير. أرحل اليوم إلى منزلٍ جديد. سيكون ذلك منزلي، أما أنت، فستبقى بيتي إلى الأبد.

بالعربي

 
جلست اليوم مع مجموعة من الأصدقاء الذين تحدث بعضهم عن العديد من الأفكار التي يودون لو يحولوها إلى واقع. وتحدثوا أيضاً عن مستقبل مليء بالمصاعب ولكنها مصاعب جميلة لأنهم هم من اختاروها لأنفسهم. وجدتُ على الطاولة مساحة ضخمة من الأمل الذي أحاول جاهداً العثور عليه والتمسك به.
 يحزنني جداً أن أكون ذلك الفتى الذي لا يعرف ماذا يريد. يحزنني أن أجلس مع أصدقائي الذين في عيونهم أرى الطموح العميق، ومن أيديهم يخرج العمل الكثير. ليس غيرة منهم، ولكني أحلم كثيراً بأن أكون في صفهم. كم أتمنى أن أجد ما أريد، وكم أتمنى أن أتخلى عن الجبن الذي يسكنني في مواجهة الحياة، وفي مواجة البشر. أحب الكتابة، ولا أعلم عنها شيئاً. أحب الإعلام، ولا أقترب منه أبداً. أحب تنظيم الفعاليات، وابتعدت عنها جداً.
أنا أحلم كثيراً، وأتخيل كثيراً، وفي أغلب الأحيان أصاب بالإحباط بعد فشل ذلك الحلم. لكني مؤمن تماماً أنه لابد لأحلامي أن تتحقق يوماً ما. أنا أكتب اليوم لا لأشارككم همّي، بل أكتب لكي أحث نفسي وأمام الجميع، على العمل أكثر، وعلى البحث أكثر، وعلى القراءة أكثر فأكثر. أكتب، لكي أتحدى نفسي قبل الجميع، بأني قادر على الرجوع يوماً ما لأمزق هذة الصفحة بابتسامة، بعد أن أجد نفسي.
يقول صديق لي أن كل العظماء الذين سمعنا أو قرأنا عنهم، لم يصبحوا كذلك فقط لأنهم كانوا فقراء أو عانوا في طفولتهم، بل لأنهم وضعوا أمامهم التحديات الكثيرة، ثم تغلبوا عليها. كلنا فقراء ولكن بطرق مختلفة. كلنا محتاجين ولكن لأشياء مختلفة. لابد أن تمر على حياتنا لحظة توهان، لا نعلم فيها من نكون أو ماذا نريد، وعندما نضع أمامنا التحديات التي نثابر للتغلب عليها، سنجد في منتصف الطريق ذلك الضوء الذي لطالما انتظرناه، أو ربما كان ينتظرنا. سنجد نفسنا التي نحب، والتي نشتاق، والتي سنعيشها حتى آخر العمر.
في حياتنا أمثلة كثيرة لأشخاص أو ربما عظماء، فشلوا في أمور عديدة قبل أن ينجحوا في الشيء الذي وضع أسمائهم داخل كتب التاريخ. من الجهل أن يقف الإنسان عند أي حدٍ كان. من يملك القدرة على الحلم، فهو يملك المستقبل بأكمله.
والمستقبل أيضاً ملك أولئك الذين يظنون أن كل نهاية، ليس سوى بداية أفضل. في الحياة نواجه العديد من المطبات التي قد تعرقل خططنا وأهدافنا، أما أنا فأرى أن في كل مطبة نواجهها، تكمن البدايات الجديدة. هناك صنفان من البشر، الأول يظن أن مواجهة المطبة تلو الآخرى تضعفه وتوحي بقرب النهاية، والثاني يظن أن مع كل مطبة، تُخلق مئات الفرص الجديدة للبحث عن أهداف أكثر وطموحات أكبر. فأيهما أنت، وأيهما تريد أن تكون؟
أكره المثالية وأحاول الابتعاد عنها قدر المستطاع، لكني مؤمن تماماً أن التمسك بالأمل هو سر التفوق في كل شيء. ومؤمن أيضاً أن البحث الدائم عن البدايات الجديدة يبعدنا كثيراً عن النهايات المؤلمة. ومؤمن أخيراً أن الغد دائماً أجمل، بإذن الله.
 
يقول محمود درويش "على قدر أحلامك تتسع الأرض". احلموا يا أصدقائي، وأنا سأحلم معكم. ثابروا، وسأثابر معكم. آمنوا بأنفسكم، لأني مؤمن أننا جميعاً مختلفون، خاصة أنتم يا من تقرأون حروفي هذه الآن.
الحياة في نظري شيئان، فرصة ولحظة. فلنتمسك بالأولى، ولنحلم بالثانية حتى نعيشها.

مجرد حقيقة

 
 
أكرهك. أكرهكِ جداً. فأنتِ لم ترحلي قبل سنين عديدة فحسب، بل قتلتِ برحيلك عدداً هائلاً من الآمال والأمنيات. عثرتُ على كل شيءٍ من بعدك، كل شيءٍ سوى أغلى الأشياء. أتعلمين أنكِ، حتى وبعد كل تلك السنين، ما زلتِ الوحيدة التي بادرتها بالحب؟ وكم أخاف أن تبقي كذلك. رغم طفولتنا الساذجة، إلا أني أقسم بأني أحببتك، وأقسم أني نسيت شكل ودفء الحب من بعدك. كنتُ طفلاً تائهاً حين عثرتِ علي في قلبك، ولم يتغير شيء منذ تلك اللحظة، إلا أني ازددتُ ضياعاً وتوهان. تذكرين حين وعدتني بأني سأجد من هي أفضل منك؟ مضت السنين ولم أعثر على أحد. حتى حين رحلتِ، وعدتِ فكذبتِ. 
 
أتعلمين، كآبتي التي أمارسها منذ حين، ظننت أن سببها العمل، أو الحياة أو الملل. ولكني في هذه الليلة، أدركت أن لا سبب لكآبتي سواكِ. أدركت كم أنا محيطٌ فارغ، وصحراء مشتعلة. لن ألوم نفسي على كل فتاةٍ أحبتني، ثم سقطت سهواً حتى بقيتُ لوحدي. ألومكِ أنتِ، فقد أتعبتِ الذائقة من بعدك. أتعبتِ القلب الذي بات حجراً بائساً عديم النفع والفائدة لا ينبض إلا نادراً. أتعبتِ الحب الذي بات كذبةً تنام في الأغنيات والروايات لا أكثر. أتعلمين أنهم ما زالوا يتحدثون عن الحب كثيراً، وما زلت لا أرى إلا وجهكِ في كل مرة. وفي كل مرة، أموت مئة مرة. 
 
أعلم جيداً أنكِ لن تقرأي ما كتبتُ هنا أبداً، ولن يتغيّر شيء أبداً. سأظل أنا هنا، أندب حظي. أقاتل البرد الذي خلّفتِ. سأظل هنا، أغني إحيائاً للحب كل صباح، وأرثيه حين يموت كما اعتدتُ في المساء. أكرهكِ، لأني أشتاقُ إليكِ. وأشتاق إلي معكِ. وأشتاق لكل الأيام التي بدأت بكِ، وانتهت عندكِ. أكرهكِ، لأنكِ صنعتِ مني رجلاً لا يخشى الحب، وحين أصبحتُ جاهزاً للمعركة، انسحبتِ. أكرهكِ، لأننا تندّمنا بعيداً عن بعضنا. تخيّلي فقط كم كان سيكونُ جميلاً لو تندّمنا معاً. 
 
أكتبُ الليلة، مدركاً أن لا شيء سيتغيّر. وأني سأصحو غداً، كارهاً صراحتي بقدرِ ما أكرهك. كان بإمكانك أن ترحلي، دون أن تسلبي مني الحب القليل الذي يختبئ فيني، دون أن تسلبي مني ما تبقّى من إنسانيّتي. 
 
أكتبُ الليلة لا لشيء، فقط لتعلم السماء التي كانت يوماً تقف حداً لأمنياتنا، أن الأمنيات اغتيلت، وأني الليلة أكرهك. ولتعلم النجوم التي تقاسمناها جميعها، حتى الميّتة منها، أني الآن أكرهك. ولتعلم كل أرضٍ مشيناها، وكل رملٍ تناقل بين أيادينا، وكل عشبٍ رفعنا وطار بنا، أني اليوم أكرهها جميعها وأكرهك. 
 
أكرهك. أكرهك جداً، لأني مازلت أحبك. 


أنا حرٌ كاذب

 
هل نحن أحرار؟ بل نحن نجيد الكذب، فقط لا غير. كلنا عبيد لماضٍ انتهى منذ زمنٍ بعيد، ولكننا نحاول جاهدين بأن نبقيه إلى أن ننتهي نحن ثم نعود للأرض. كلنا عبيد لما يراه الآخرون، وما يظنه الآخرون، وما يشعر به الآخرون. كلنا مجرمون في حق أنفسنا، وحق رغباتنا وأفكارنا الحقيقية. كلنا مجرورون خلف كلماتٍ اختلقها البشر ليخبؤوا خلفها آمنين. كالحياة مثلاً، مساحةٌ اخترعها البشر ليحمّلوها أخطاءهم وتفاهتهم. من نحن حقاً، وماذا نريد أن نكون. ماذا كتبنا في مذكراتنا الشخصية، وخجلنا من أن يقرأها غيرنا. ماذا رسمنا على دفاتر المدرسة عندما سهينا، وماذا خربشنا حين عدنا لوعينا. نسينا كل ذلك، حين ملأوا عقولنا بما يجب أن نفعله، وما يجب أن نقول وما يجب أن نتعلم وما يجب أن نترك خلفنا ونمضي. كم من أحلامٍ دفنتها أحكام الآخرين. وكم من أقدارٍ بترناها من حياتنا، بأقوالهم وأيدينا. وحدهم الأموات هم الأحرار حقاً، فقد تخلصوا من كل شيء.
 
متى نتحرر من أحكام الآخرين. متى نتحرر من أحكامنا على الآخرين. متى نمضي في الحياة، من أجل أن نمضي فقط. متى نجتهد لمعرفة شخصٍ ما، بكل تفاصيله، قبل الانشغال برمي كل أشكال المذمة على جبينه. متى يصبح الإنسان الآخر، آخر همنا وأولوياتنا، وتصبح الأفكار والأحلام أولها؟ متى نصبح بشر حقيقيون، بعيداً عن المادة التي قتلت في نظري الكثير ممن أخالطهم كل يوم. ميتين يمشون على الأرض، لا أكثر.
 
أيتها الأرض، أعتذر منكِ بالنيابة عن نفسي فقط، فلا شأن لي بكل من حولي. أعتذر منكِ، لأنني حتى الآن أعيش تحت رحمة الآخرين. أعيش ولا أعيش، كما يجب حقاً أن أعيش. أنا حر اليوم، لأني قد أقاوم فعل ما يريده مني الآخرون أحياناً. لكني سأصبح حراً حقاً، حين أقوم بما أريده أنا، ولا أحد غيري. حين أفكر بشيء، ولا يكون آخر من سمع عن الفكرة هو قلبي. حين أتنفس كل لحظة في حياتي كما أشاء، من أجلي أنا وحدي. سأكون حراً، حين أفكر بصوتٍ عالٍ جداً، ولا يكترث أحداً لأفكاري.
 
تحرروا من أنفسكم لأنفسكم، وحرروني معكم. فأنا لست سوى جبان يخشى حتى الخروج من زنزانته التي تحتقره.


خمسة أيام في روما



لم أنتظر أن تطأ قدماي أرض مطارهم حتى أقابل أحد مواطنيهم، فقد ملأوا الطائرة التي أمتطيها نحو عاصمتهم العريقة. كاد يقتلني، ذلك الإيطالي المتذمر الذي يجلس خلفي مباشرةً. تارةً لا يعجبه كأس النبيذ الذي قُدّم إليه. وتارةً أخرى لا يعرف كيف يغيّر القنوات على شاشة التلفاز. والكثير من هذا التذمر صاحب الدقائق الأولى لي على متن الطائرة. أهكذا سيكونون جميعهم عندما أصل إليهم؟
اخترت روما. لماذا؟ لا أعلم. أردتُ أن أختلي بنفسي في مكانٍ بعيدٍ عن دياري. أردتُ  أن أسافر إلى مكان لم أعتد عليه، ولا أعرفه مطلقاً. فأنا لم أزر روما من قبل. كانت فينيسيا هي المدينة الإيطالية الوحيدة التي زرتها منذ قرابة العشرة أعوام. لم تكن مدينة رومانسية أبداً في ذلك الوقت. كانت مجرد مدينة تغرق وسط حرارة الجو التعيس. ربما كنتُ طفلاً آن ذاك، أو ربما هي كذلك حقاً. في البداية كنت أريد الذهاب لمكانٍ يخلو من كل شيء إلا من الطبيعة الخلاّبة والبحر. أردتُ أن أختلي، أن أرمي كل ما في ذهني في مكانٍ بعيدٍ جداً، وأعود بلا ذهن. ثم قلت في نفسي: ولكني أحب أن أشاهد الناس، وأسمعهم، بضحكهم وحزنهم. ولا أجمل من الطليان في صخبهم وضحكهم وطريقة حديثهم. هذا على الأقل ما شاهدناه في التلفاز. كلنا نحتاج البشر، حتى نعلم من نحن حقاً، وأين نحن حقاً من هذا العالم.
ها أنا الآن لوحدي، وسط طائرةٍ تعج بالطليان، العائدين إلى بيوتهم وصخبهم وعروبتهم الأوروبية. وها أنا أرحل معهم لبضعة أيامٍ قليلة، تصاحبني بعضاً من أشيائي وقليلاً من الكتب. ويصاحبني كذلك رأسي الذي يعج بالأفكار والقصص والقلق. مزدحمٌ جداً هذا الرأس بما فيه. أتيت هنا، لأفرغهُ في إحدى النوافير أو المتاحف. أتيتُ لأفرغه وسط بشرٍ لا أعرفهم، وبلدٍ لا أعرفها. اخترت أن أسافر لوحدي. لطالما أردتُ ذلك. لطالما أردتُ أن أستمتع ولو لمرة واحدة، بأصواتٍ لا أعرفها، ولا أعرف ما تقول. لطالما أردتُ أن أكتشف لوحدي، أن أتوه لوحدي، أن أمشي وأمشي بعيداً لوحدي. أن أستمع لما تقوله عيناي عندما ترى كل منظرٍ بديع. أن أشعر بشيءٍ جميل، ثم أبتسم لوحدي، كالمجنون، دون أن يسألني أحد: ما بك. أنا أجلس على هذا المقعد الآن لوحدي، رامياً كل شيءٍ خلفي. منتظراً بكل شغف، ما ينتظرني هناك، في بلاد المجانين.
قضت الساعات في الطائرة بسرعه ولم أشعر بها. فقد قضيتها بالكتابة قليلاً، وبالقراءة قليلاً، وبمشاهدة بعضاً من الأفلام قليلاً. حتى قررت أن أفتح النافذة، لأرى تلك الأنوار الرائعة. بدت روما جميلة جداً من السماء رغم حلول المساء. أنوارها أتت على شكل دوائر، وبين الدوائر خيطٌ رفيع من الأنوار أيضاً، وكأنها مسارح امتلأت بالراقصين، وتربطهم قلوب العاشقين. كان منظراً رائعاً بلا شك. حتى قررت أن تختفي تلك المدينة وسط غيومٍ ثقيلة، وتحولت أنوار المدينة إلى برقٍ يؤلم العينين. كم كان قريباً ومخيفاً ذلك البرق. كل ذلك كان قبل الهبوط بقليل. دقائق جلستُ فيها أفكر عن ما إذا كانت هذه الرحلة تبدأ بالقسوة هذه، فكيف ستكون نهايتها. إلى أن هبطنا، وعاد كل شيء إلى حاله. ولكني حملتُ شيئاً قليلاً من الخوف معي إلى أرض المطار.
وقفتُ هناك في طابورٍ طويل يعج بالمسافرين المتعبين. ثم ما أن خُتِم على جواز سفري حتى أخذت حقيبتي واتجهت باحثاً عن مركبة أجرة. وقفتُ في طابور طويل آخر، لكن بعد دقيقة يأتيني رجل، يسألني إن كنت لوحدي، أجبت بالإيجاب، فإذا به يأخذ حقيبتي وعنوان إقامتي وراح يحدث صديقه بالإيطالية. بعد ثوانٍ وجدتُ نفسي أجلس في المقعد الأمامي من حافلة صغيرة مع أشخاصٍ لا أعرفهم. يجلس بجانبي رجلٌ روسي يزور روما لثلاثة أيام ليحضر حفلاً لعيد ميلاد أحدهم. وفي الخلف يجلس زواراً من الدانمارك وآخرون إنجليز، يأتون ليقظون في روما خمسة أيام، مثلي تماماً. كيف شعرت؟ لا شيء. في بلدٍ غريب، ومع غرباء، لكني لم أشعر بالغرابة أبداً. أمراً يثير الاستغراب. فأنا الذي أحاول تجنب الغرباء في المكان الذي أعيش فيه، أجد نفسي لا أمانعها في مكانٍ آخر. كل ما فعلته هو الاستمتاع باللحظة. ثم داهمت ذهني بعضُ أفكارٍ مخيفة. ماذا لو قال لي موظف الفندق أن لا حجز لي؟ هل سأقضي أول ليلةٍ لي في روما، في الشارع؟ ثم طردتُ الفكرة من رأسي، وعدت للاستمتاع باللحظة. ينزل الروسي إلى شقته، ثم بعدها بدقائق أنزل أنا في فندقي. تذكرتُ وأنا أستلم مفتاح غرفتي، أني لم أرَ وجوه الأشخاص الذين كانوا يجلسون خلفي في الحافلة الصغيرة. لم أعرف عددهم، ولا شكلهم، ولا شيء عنهم سوى ما خرج من أفواههم إجابةً على أسئلة السائق المجنون. نعم مجنون، كان يحدّث نفسه فالطريق. أو، لا ليس مجنون. فأنا أفعل ذلك في أحيانٍ كثيرة أيضاً.
لم تبدو روما غريبةً في طريقنا من المطار إلى الفندق. وكأني زرتها من قبل. روما تشبه الشام في كثيرٍ من الأحيان. الشام التي زرتها قبل سنين. الشام التي لم تعد الآن كالشام. شوارعها، سياراتها، جنون سائقيها. حتى بعضاً من ألوانها. لا شيء كان غريباً في طريقنا من المطار إلى الفندق.
رميت أمتعتي في الغرفة وخرجت أمشي في شوارع العاصمة العتيقة. استقبلتني روما بالورود. فكل من صادفته في الشارع كان يحمل ورداً أحمر. كلهم احتفلوا بالحب في يومٍ بعيدٍ جداً عن عيد الحب. وبعد دقائق قليلة، استقبلتني روما من جديد، بالمطر. جرى الناس جميعاً يبحثون عن مكانٍ يتظللون به، وأنا معهم جريت. خلت الساحة من البشر إلا من شرطيٍ وقف بلا حراك، مستمتعاً بذلك المنظر. وكأنه هو من أرسل لنا ذلك المطر. هكذا انتهت ليلتي الأولى، في روما. عاصمة البشر والمسيحية والطعام. عاصمة الأرواح الصاخبة والظلام.
أما في الصباح، فقررتُ أن أمشي دون هدف. رغم أني كتبتُ الكثير من الأماكن التي وددتُ زيارتها، ولكن قلت في نفسي، ليس الآن. قادتني أرجلي للشوارع القديمة، والمعالم المحطمة، والسكّان الغاضبين من كل شيء، حتى من أنفسهم. جلستُ في أحد المقاهي، دون الالتفات لأسمه. ففي روما، القهوة كلها لذيذة. جلستُ في زاويةٍ أرى الناس. السعداء منهم والمحبطين. البطيئين منهم والمستعجلين. كان صباحاً جميلاً جداً، قضيتهُ بمشاهدة ما حولي، ومن حولي. ونسيت نفسي تماماً. رميت كل شيء في غرفة الفندق تلك، وخرجتُ لأشعر بالآخرين. جميلٌ جداً أن لا تفكر، ولا تحكم، ولا تقدّر. جميلٌ جداً أن تجلس وأن تمشي، دون أن تقرر. تركتُ كل القرارات لرجلي، رجلي فقط.
عدتُ بعد الغداء إلى الفندق، فقرأت شيئاً من الرواية التي حملتها معي. بدت مدهشة، ولم ينقصها سوى كوباً من القهوة. أخذتها معي لأحد المقاهي في زاويةٍ ما قريبة من الفندق بعض الشيء. جلستُ هناك أراقب السواح يمرون أمامي في حركة سريعة، وآخرون يقفون للحظاتٍ قليلة أمام النافورة الشهيرة، يرمون فيها بعضاً من النقود وبعضاً من أمانيهم، ويرحلون. وما أن مضت دقائق حتى وجدتُ نفسي أغرق في الرواية من جديد، دون أن أشعر بمئات البشر الذين يمشون من أمامي، إلى أن سمعتُ أحدهم يطلب أن يجلس معي ليدخن الغليون. كان رجلاً طويل القامة في الخمسينيات من عمره، يرتدي بنطالاً بني وقميصاً وردي وقبعة الكاو بوي. فمددتُ يدي مشيراً إلى الكرسي. شكرني، ولم أنظر إليه. جلس وشرع هو في التدخين، وعدتُ أنا للقراءة. لمحتُ لاحقاً أنه أخرج نقوداً من جيبه ليعدها، كانت دولارات أمريكية، فعرفت أن وجود تلك القبعة على رأسه لم يكن صدفة. مضت دقائق عدة دون أن يلتفت أياً منا للآخر. إلى أن قاطع قراءتي بسؤاله: من أين تشتري الكتب؟ ظن أني اشتريته من روما. فقلت من بلدي. سألني إن كنتُ سائح، فأجبته: لبضعة أيام، ثم أذهب إلى اسطنبول. ثم سألني إن كنتُ أعرف الروائي دان براون وإن كنتُ قرأت روايته الأخيرة (أنفيرنو)، فأجبته بالسلب. قال أن الرواية وقعت في بعضاً من مدن إيطاليا واسطنبول التركية. تمنى لو أنه كان بإمكانه زيارتها في رحلته السياحية هذه، فقد قرأ الكثير عنها في الرواية، وأُعجب كثيراً بها. تحدثنا بعد ذلك قليلاً عن روما وطقسها. ثم شيئاً قليلاً عن وظائفنا. ثم تمنى لي يوماً سعيداً ورحل. كان ذلك أول حوارٍ لي مع غريب منذ فترة طويلة. تذكرت بعد أن رحل، أني لم أتعرف على أسمه. رغما غرابة الحديث الذي كان سببه روايةٍ ما، إلا إني سعدتُ جداً. لن أرى هذا الأمريكي في حياتي مرة أخرى، وأعلم جيداً أني سأنسى هذا اللقاء وكل ما دار فيه عمّا قريب. ولكنها كانت لحظة جميلة، وكم هو رائع أن نعيش اللحظة الآنية، دون تفكيرٍ بما أتى قبلها وما سيأتي بعدها. عندما أخبرتُ صديقي عن الحوار الذي دار بيني وبين الأمريكي، قال: لمثل هذا يا صديقي، نسافر وحدنا.
وهكذا كانت بقية أيامي في روما. قضيتها بين زيارة المتاحف والكنائس، والتلذذ بالقهوة واقفاً وجالساً، وبين القراءة والاستماع لماجدة الرومي ومحمد عبده وفيروز وعبدالحليم، بعضها لأسبابٍ أعرفها وأخرى أجهلها. هكذا كانت أيامي في روما، المدينة التي أيقظتني، وانتشلتني، وأخذتني لمكانٍ بعيدٍ جداً. لا أعتقد أني كنتُ سأصمد لخمسة أيام لوحدي لو اخترت التوحّد في أي مدينةٍ أخرى. روما بلا شك مجنونةٌ بالحياة، عاشقة لها بكل شكلٍ من الأشكال. روما تملؤها جميع أشكال البشر، والأرواح، والأحلام. هي ثورةٌ في زمنٍ فقد فيه الكثيرون المعنى الحقيقي للثورة. كم هو رائعٌ منظرها وهي تحتضن كل هؤلاء السواح الذين أشاهدهم الآن وأنا جالسٌ في مقعد هذا المقهى المختبئ في أحد الأروقة القديمة. تحتضن الجميع رغم غضب سكّانها من كل شيء. إلا أن غضبهم يشبه لحدٍ كثير حباً ثائراً لا يعرف كيف يعبّر صاحبه عن ما بداخله. في روما لابد أن تتقبل كل أحد وكل شيء كما يأتيك، من دون أن تختلق في ذهنك أية حكايةٍ أو قضية. في روما، استسلمت كما قلت سابقاً، للحظة الآنية، متناسياً كل ما كان يدور في رأسي سابقاً، وكل ما سيأتي لاحقاً. 
في روما، كل الأشياء تتشابه تقريباً. نادراً ما تأتيك البيتزا مقطعة، وإذا أتت كذلك، فاعلم أنها ليست جيدة. في روما، لا تأتيك القهوة حارّة، لأنهم يريدونك أن تنتهي منها وتغادر بسرعة. في روما، الكل يتسوّل بنفس الطريقة. كلهم يبيعون نفس البضاعة. وحتى الموهوبون منهم، فقد تشرّبوا نفس الموهبة. الشوارع في روما مضحكة. لحقني أحد الباعة في الشارع، وسألني إن كنت أتحدث الإيطالية، فنفيت. ثم سألني عن بلدي، فقلت له خمّن، فقال ربما أتحدث لغتك، فقلت أشك في ذلك. فقال السلام عليكم. قلت إذاً أنت تتحدثها فعلاً، فقال لا للمخدرات. ضحكتُ طويلاً ومشيت. ثم اكتشفت أني حتى الآن لا أعلم ماذا كان يريد. 
 
كنتُ أقصد أحد المعالم القديمة في روما حين التفتُ يميناً لأرى درج بعتباتٍ عشر يعلوه باب أخضر عملاق. دخلت من ذلك الباب دون شعور لأجد نفسي في كنيسة. ليس ذلك فقط، بل ويقام فيها مراسم للزواج في تلك اللحظة بالتحديد. لم يوقفني أحد، فوقفتُ هناك أشاهدهم. بابتساماتهم، وغنائهم الملائكي لتراتيلهم الدينية. لا أدري لماذا شعرت بالسعادة. سعدتُ لأشخاصٍ لا أعرفهم. لا تربطني بهم صداقة، ولا لغة، ولا دين، ولا لون، ولا أصل ولا وطن. كل ما كان يربطنا، في تلك اللحظة، هو أننا جميعاً بشر، فقط بشر. أحسستُ لحظتها بجمال الحياة، والمعنى الحقيقي لها. فهم لم يلاحظوا وجودي، ولن يعرفوا أبداً عن شعوري في تلك اللحظة تجاههم. تمنيت لو أننا نستطيع أن نكون كذلك تجاه بعضنا في كل الأوقات، رغم كل الاختلافات. أما كان العالم ليبدو أرقى وأطهر؟  جمال الحياة يكمن في بساطتها، والشعور بالسعادة تجاه الآخرين في لحظة احتفالهم، هو أبسط شعورٍ إنساني يمكن أن يقدمه البشر للبشر.
ذات مساء، قررت أن أتوه. قررت أن أمشي دون عنوان أقصده، أو شعورٍ أدركه. كل ما كنت أريد أن أفعله هو أن أمشي، مؤمناً بقرارات أرجلي، مستمتعاً بألبوم عبدالمجيد الجديد. أحياناً أسرح في وجوه المارة، وأحياناً في أحذيتهم، وأحياناً  كثيرة في السماء الصافية. والمضحك أني توقفت لثلاث مرات كي أساعد السواح في طريقهم، وفي كل مرة كنتُ أجيب: انا لست سوى رجلٍ تائه.
لم أكن أعلم إن كنتُ تائهاً في تلك اللحظة فقط، أم تائهٌ بشكلٍ عام. لكني لم أفكر في الأمر كثيراً، عكس ما كنت أفعله في العادة. لم تكن هذه الرحلة أبداً للتفكير في الأمور المعقدة، بل في أبسطها وأجملها.
غادرت روما، سعيداً بالوقت الممتع الذي قضيته فيها، حزيناً لتوديعها. كانت بلا شك واحدة من التجارب المختلفة. غادرتها تاركاً ورقة في غرفة الفندق كُتب عليها: هذه غرفتي في روما، وهذه حقيبتي وأشيائي. وها أنا الآن راحلٌ لأرضٍ أخرى. عسى أن نلتقي قريباً، في الواقع أو في الأحلام. أحببتكِ من أول نظرة، وسأحبك دائماً.
 
كانت هذه، أيامي الخمسة في روما.

انسحاب

 
 
 
في كل يوم أبحث وأقرأ عن أولئك الذين غيروا العالم الذي حولهم بشكلٍ من الأشكال، بقلمٍ أو فرشاة أو حنجرة أو... أجد أن الكثير منهم قد غادر في سنٍ مبكرة جداً، فأقول في نفسي: ماذا لو عاشوا لخمسين سنةٍ أخرى؟ ماذا عساهم يفعلون؟ إلى أين سيصلون، وأي كوكبٍ سيُتعِبون؟
 
هل الحياة بهذه القسوة، لترفض أولئك المبدعين من الوجود فترسلهم إلى قبورهم بسرعةٍ ساحقة؟ أم هي السماء من تشتاق لتلك الأرواح التي تحمل في جعبتها أرواحاً أخرى أكثر شقاءً وقدرة. أم هو الإله، بحكمته وعظمته، يهدي لؤلائك المختلفين نصف حياة، لأن الأرض قد لا تحتمل أن ينفجر إبداعهم فيها. لكل رحيلٍ قصته، ولكل موتٍ حكمته.
 
ثم أفكر، هل حزِنَت السماء من البشرية لتتوقف عن إرسال مثل هؤلاء للأرض؟ هل نحنُ مخلوقات عديمة الفائدة لهذه الدرجة حتى يستعصي على أحد تغييرها؟ هل نحن أسوأ ما حدث لهذه البسيطة منذ آدم وتفاحته؟ أكاد أفقد ثقتي في بشريّتي وجنسي وعرقي. أكاد أنسحب، لأكون أي شيءٍ آخر. أي شيء، حتى لا يقول عني أي حقيرٍ يوماً ما: كان ذاك، مجرد إنسان.
 
أخجل من نفسي كثيراً. فأنا أعيش في زمنٍ نصف أرضه يسكنها إنسانٌ مضطهد، ومظلوم، وقريباً جداً معدوم. وفي النصف الآخر يسكن الوحوش الذين تجردوا من أصلهم، من طينهم. وبينهم تعيش بضعُ أفكارٍ تحاول إصلاح ما لا يصلح إصلاحه، سُرعان ما تدعسها أحذية ملطخة بعرقٍ ودم.
 
هنيئاً للمبدعين الذين رحلوا، فما الأرض بالنسبة لهم سوى داراً لأشباه البشر. أما نحن، لا نملك سوى الانتظار، حتى ينتشلنا القدر.


حرية





عاماً بعد عام، ورحلة خلف رحلة. كانت تلك السنة الدراسية هي الأجمل. ثم أتت بعدها سنة دراسية فكانت هي الأجمل. وفي أواخر الأعوام، جلسنا نتحدث ونختار أي الفصول كانت الأجمل. أي المواقف كانت الأحلى. وأي هروبٍ كان الأخطر. جلسنا نتحدث، عن تلك الفتاة التي أحببت في أول سنوات الثانوية. وتلك الفتاة التي أحببت في آخر سنوات الثانوية. وبعدها علمتُ أن صديقي أحبها كذلك، ولكنه لم يكن جريئاً ليحدثها. وأنا كذلك، فمضت من دوني ومن دونه حتى انتهت الثانوية.
عاماً بعد عام، كبرنا رغم وعودنا بأن لا نكبر أبداً. تخرجنا فرحين بالنجاح، حزينين للوداع. فالذي كان يظن فينا أن يوم الرحيل خارج تلك الجدران التي لطالما تقافزنا من عليها يعد يوماً سعيداً ، لابد أنه الآن يندم بشدة على ذلك الظن. فهناك، كان كل شيء، وكل يوم، وكل لحظة جيدة أو سيئة، كانت كلها أحلى. الصداقة والشقاوة والمقالب والقصص. الصباح والمساء، الصيف والشتاء. كانت كلها أحلى.  حتى الحب، رغم طفولته وعذريته، فكم كان أحلى.
أذكر مرةً أني عوقبت لأني أشعلت الألعاب النارية من دون تفكير بجانب غرفة المدير. ومرة أخرى عوقبت لأني تسلقت من دون تفكير سقف الفصل لأقفز في الفصل الآخر. وكذلك عوقبت لأني كثيراً ومن دون تفكير كنت أهوى الكتابة على جدران الفصول والمدرسة. عوقبنا كثيراً، لكنها كلها لأمورٍ قمنا بها من دون تفكير. وها هي الحياة اليوم تعاقبنا في كل لحظة نقوم فيها بأشياء ساذجة أغلبها يأتي بعد تفكيرٍ وتفكير.
كل شيءٍ كان أجمل عندما لم نكن نفكّر.
 أسوأ قرارٍ في حياتي كان عندما قررت أن أتخرج من المدرسة، وأن أصبح حراً، كما كنا نعتقد. علّمونا أن الحرية هي بأن لا تفعل ما يطلبونه منك. كان ذلك أقبح درسٍ تعلمته في حياتي. فالحرية لم تكن أبداً كذلك. الحرية هي أن تفعل دائماً ما تطلبه منك نفسك. وإن كانت المدرسة سجناً، فكم أشتاق لأن أكون سجيناً برضاي، وكم أبغض أن أكون حراً إرضاءً للآخرين.
إلى أطفال المدرسة، لا تخرجوا أبداً منها. مثلي يوماً سيرهقكم الإشتياق، إلى حضن المعلّمة. وسيتعبكم الإشتياق إلى صوت المديرة المزعج في الصباح. وأكثر ما له أشتاق، تلك الفتاة التي أهدتني يوماً مقلمة، ومن يومها ولعامٍ كامل أصبحتُ أنا المقلمة. وأصبحتُ في يدها القلم، وفي جيبها الأيمن ممسحة. من يومها ولعامٍ كامل أصبحت هي الكشكول، وهي جدران المدرسة.

قال قلبي



لا تنتظر، فكل الذي تريد قد لا تريده لك الحياة. وكل الذي تبغض، منك يوماً قد يقترب. عش كما يعيش الهواء، طليقاً يُحيي البشر، وكل ما على الأرض يمر. عش كما تعيش السماء، لا تعرف لنفسها حد، فتنطلق، ثم تنطلق. وحين تصاب بالتعب، تتوقف قليلاً لترى نفسها فوق الجميع، بعيدةً عن كل أمر. عش كما يعيش القدر، أمراً مسلّماً، حقّاً مؤكداً، طريقاً ودروساً وعِبَر.
 
هذا كان جواب قلبي، حين تحدثنا عن العمر. حين تناقشنا عن وجودي، وعن ضميري، وعن الشمس والقمر. يريدني أن أعش، كما لا يعيش البشر. كالهواء، والسماء، والقدر.
 
وماذا بعد يُخفي القدر؟ وما للحب لا ينتشر؟ أكره أن أكونَ غبياً، لكني أشتاق الغباء الذي تخلّفه قصص الحب. كل المحبين يقومون بأشياء غبية، وما أجمل الغباء الذي يخرج من الأحبة. كل غباءٍ قبيح، إلا غباء الحب وبعض الذي يزور القدر.
 
للقدر علينا حق. لابد أن نقضي بعض الوقت للتأمل والتفكر بالقدر. فكم من مرةٍ فضّلنا فيها الصُدَف على المواعيد وعلى مخططات العمر؟ ولم يخطر ببالنا أبداً أن الصدف ليست سوى أقداراً مكتوبة مالت نحو طريقنا. كل صدفةٍ جميلة هي هدية من الحياة، ومن رب الحياة.
 
يا ربي، بارك لي في قدري، وفي وقتي، وفي صمتي، ورقق لي صوت ضميري. إلهي، إني برغبتك وُلِدت، وبرغبتك أموت.. وبينها لا أملك سوى الانتظار. ومن الأرض خرجت، وإلى الأرض أعود. هي المهد والطريق والقبر. منها ينبت الدعاء، وبها أشتم رائحة السماء. يا ربي، بارك لي في أرضي.. بارك لي في أرضي
 
 
 


يوماً سأسافر

 
 
 
أسافر؟ كيف أسافر وأنا أفتقد مشاركة السفر مع أحد. لذيذٌ جداً هو السفر مع من نحب، والألذ منه هو السفر عن من نحب، لأن ألم الشوق الذي من بعده يأتي اللقاء والعناق أجمل بكثير من سماحة الحب ولطفه. 
 
بعد مساحةٍ عميقة من الظلام الكئيب، لابد أن تظهر شمعةٍ عند زاوية الطريق. وفي وسط أحلك الدروب نحو أي مصير، لابد من إشارةٍ تهدينا نبذة عن المصير. كذلك هو الحب، لا يأتينا من الأمام، ولكن يلامس كتوفنا ونحن نسير، ثم نلتفت لنلقاه هناك قريبٌ منا يبتسم، ويأخذ بيدنا فنطير. 
 
كل الأشياء الجميلة التي تحدث في حياتنا، الأشياء الجميلة حقاً، تحدث لنا فجأة؛ تلقانا عند أحد جوانب الطريق، وليس على الطريق نفسه. الحب، السعادة الحقيقية، الدمعة الصادقة، الأصدقاء الطيبين، القدر ومتعة الحياة، نجدها جميعها على جوانب الطريق. 
لذلك كل أسفارنا التي نعتبرها هروبٌ من الواقع هي في الواقع ليست إلا واقعاً لم يتغيّر منه إلا الرائحة وبقت ألوانه كما هي. أسفارنا تفتقد إلى لذةٍ لن ندركها إلا إذا لم نحدد أسفارنا. كذلك كل الأشياء الجميلة حقاً، فهي لا تأتي إلا لمن لم يحددها مسبقاً.
 
أشتاق السفر دون وجهه، وأشتاق المسير دون هدف، وأشتاق لأشياءٍ لم أرها ولم أجربها ولم أهرب إليها. أشتاق الحب المباغت، والوجوه الغريبة، وابتسامات الشوارع الجديدة. أشتاق بغض رائحة عطرٍ يزور الأرض لأول مرة، لأني أشتاق التجريب. 
 
أصبحت اليوم أهوى الكتابة في الهواء، في وسط بشرٍ تختلف أسباب رحلتهم، فتتناثر كلماتي بين السحب حتى تصل الأرض بريئةً مني، وتحل بعيدةً عني. وكم أتمنى أن أصبح يوماً مُلكاً للسماء، تهديني هي ما تشتهي وما تحب، فلا أندم أبداً ولا أترّجى أبداً، ولا أنتظر حباً أتعبني البحث عنه، فيأتيني صادقاً لذيذاً مطهّراً من أعلى غشاء.
 
أسافر؟ يوماً سأسافر، دون طائرة ودون جنحان. سأسافر، فوق القلوب العابرة دون أن أنتظر، لأهبط في أحدهم، ثم ألقى كل الأشياء الجميلة، تلك الجميلة حقاً. يوماً سأسافر، دون عنوانٍ  وتذاكر.


لندن



 
 
 
إنها السابعة صباحاً بتوقيت السماء.
 
يكاد يقتلني التعب، إلا أن النوم قرر ممارسة أتفه المقالب معي. لا أتذكر إن كنتُ لا أحب النوم على متن الطائرات، فأنا لم أسافر لمكانٍ بعيد منذُ مدة، ولكني أعلم أن النوم لا يستلطفني في هذه الرحلة على الأقل. مضت ثلاث ساعات وأنا منشغلٌ بمشاهدة جميع مَن حولي ينام كلٌ على طريقته، وكم أتمنى لو كنتُ أي واحدٍ منهم. 
 
رشفة ماء، ثم ابتسامة تسكن الشفاة، لأني أرحل لبضع أيام إلى المكان الأحب إلى قلبي. كل مرة أسافر فيها إلى لندن، أجتهد لوضع أسباب الحب التي أحملها في قلبي لهذه العاصمة، إلا أني أفشل في كل مره. وأحاول أن أغيّر وجهتي لأي مكانٍ آخر كلما سنحت لي فرصة السفر، وأفشل في كل مرة كذلك.
لندن أسرتني منذ أن كنتُ طفلاً، منذ أن كنت أدخل من بوابة الحديقة تلك، مهرولاً إلى عربة الآيسكريم التي تقف هناك كل يوم تنتظرني، لأنها تعلم جيداً أني سآتيها ما دمنا في ضيافة فصل الصيف. لندن أسرتني منذ تلك اللحظة التي وصلت فيها إليها في إحدى الرحلات القديمة، ووقفت أسفل الفندق لألمح فتاةً غريبة تلوّح بيدها من الأعلى ثم تختفي، وكأنها ملاك لا يظهر إلا في العمر مرة. كانت تلك هي أجمل فتاةٍ لم أرها في حياتي. 
 
لندن التي كلما زرتها، حدث شيءٌ جميل. لندن التي فيها رأيت أجمل الوجوه، وعانقت ألطف القلوب، وقبّلت أروع الصدف. 
 
أؤمن أن لكلٍ منا قصة تروى إلى الأبد في مكانٍ ما. وأؤمن أن لندن هي هذا المكان بالنسبة لي، إلا أني ما زلت أنتظر القصة. 
مئات البشر يشاركونني الرحلة في هذة اللحظة ولكلٍ منهم سبب لرحلته، أما أنا فرحلت إلى لندن هذه المرة كي أتنفس، فقط أتنفس. 
 
عيناي الآن تعاتبني، مؤذيةٌ هي إضاءة الهاتف. أحلامي أيضاً تعاتبني، فكم مللت الإنتظار. إلى الأحلام سأرحل الآن لأحدثها وأداعبها، علّنا نصل بسرعة، لأن كلانا يكره الإنتظار.



 

أدمنت الغزل


 
 
في الوقت الذي توقفت فيه أحلامي عن زيارتنا أنا ومحبوبتي الغائبة، توقفت معها كل زيارات الأحبة. حسبتُ جمال الحياة يكمن في ثلاث، في الحب والموسيقى وفي القهوة المرّة. حسبتُ أن الحياة تعني شيئان، تعني فرصةً ولحظة. حسبتُ الكثير ولا أزل، آمنت بالحب حتى أرهقني فرحل. منذ أن قررت على توطيد علاقتي بالكلمات، قررت كذلك أن لا أدنو لرسمها على ورقاتٍ من القسوة، أو الحزن، أو الشؤم. آمنت أن البشرية لا تحتاج إلى المزيد من الألم، بل لا تحتاج إلا الأمل. ثم زارتني تلك الفراشة في نهار زائف، لتخبرني أن الحزن في بعض الأحيان أجمل. ومنذ تلك اللحظة البائسة، ظللت طريق السعادة، حتى كرهت الفراشة.
غدوت كالنحل الذي يموت في كل مرة يقترب فيها من الأمل. حتى العسل الذي كنت أصنعه، ما عاد اليوم كالعسل. وفي كل زهرة أحّل عليها أملاً في أن أرتشف ذاك الرحيق، ذاك الحب الذي يتعانق في أول شهوره مع الخجل، ثم يسقينا إيماناً يبقى يردد داخل صدورنا أغنيات تصف جمال الحياة وما أرقى فيها العدل. حتى تمضي الشهور، ويمرض الرحيق، وتموت رائحته ولذته. ثم أبدأ بالترحال من جديد، فالزهر كان قد ذبل.
لكني سأبقى السعيد ما دمتُ أشتاق الغزل. أنا على قيد الحياة لأن روحي لا ترى إلا الجمال وتعشقه حد الثمل. أنا الوحيد في الأرض ممن يستيقظون كل صباح لشم رائحة النور لا للعمل، ثم ينامون في المساء ليدخلوا عالمهم الحقيقي، عالم الحلم، لا للتعب أو للكسل.   
أنا غداً سأكون أنا، وأنا اليوم أشتاق غداً.
أدمنتُ الغزل لا لأني وقعتُ في الحب كثيراً، بل لأني أحب الحياة والحياة تحيا بالغزل. ولأنها تلك الفتاة في تلك اللحظة بالتحديد، علمتني دون أن تدري معنى جديد للحياة، لجمال وصدق الحياة. وربما أكون قد وجدتُ على أطراف عينيها، دمعةٌ تعني أمل.