أكتب لأن في هاتفي أحرف عربية

خمسة أيام في روما



لم أنتظر أن تطأ قدماي أرض مطارهم حتى أقابل أحد مواطنيهم، فقد ملأوا الطائرة التي أمتطيها نحو عاصمتهم العريقة. كاد يقتلني، ذلك الإيطالي المتذمر الذي يجلس خلفي مباشرةً. تارةً لا يعجبه كأس النبيذ الذي قُدّم إليه. وتارةً أخرى لا يعرف كيف يغيّر القنوات على شاشة التلفاز. والكثير من هذا التذمر صاحب الدقائق الأولى لي على متن الطائرة. أهكذا سيكونون جميعهم عندما أصل إليهم؟
اخترت روما. لماذا؟ لا أعلم. أردتُ أن أختلي بنفسي في مكانٍ بعيدٍ عن دياري. أردتُ  أن أسافر إلى مكان لم أعتد عليه، ولا أعرفه مطلقاً. فأنا لم أزر روما من قبل. كانت فينيسيا هي المدينة الإيطالية الوحيدة التي زرتها منذ قرابة العشرة أعوام. لم تكن مدينة رومانسية أبداً في ذلك الوقت. كانت مجرد مدينة تغرق وسط حرارة الجو التعيس. ربما كنتُ طفلاً آن ذاك، أو ربما هي كذلك حقاً. في البداية كنت أريد الذهاب لمكانٍ يخلو من كل شيء إلا من الطبيعة الخلاّبة والبحر. أردتُ أن أختلي، أن أرمي كل ما في ذهني في مكانٍ بعيدٍ جداً، وأعود بلا ذهن. ثم قلت في نفسي: ولكني أحب أن أشاهد الناس، وأسمعهم، بضحكهم وحزنهم. ولا أجمل من الطليان في صخبهم وضحكهم وطريقة حديثهم. هذا على الأقل ما شاهدناه في التلفاز. كلنا نحتاج البشر، حتى نعلم من نحن حقاً، وأين نحن حقاً من هذا العالم.
ها أنا الآن لوحدي، وسط طائرةٍ تعج بالطليان، العائدين إلى بيوتهم وصخبهم وعروبتهم الأوروبية. وها أنا أرحل معهم لبضعة أيامٍ قليلة، تصاحبني بعضاً من أشيائي وقليلاً من الكتب. ويصاحبني كذلك رأسي الذي يعج بالأفكار والقصص والقلق. مزدحمٌ جداً هذا الرأس بما فيه. أتيت هنا، لأفرغهُ في إحدى النوافير أو المتاحف. أتيتُ لأفرغه وسط بشرٍ لا أعرفهم، وبلدٍ لا أعرفها. اخترت أن أسافر لوحدي. لطالما أردتُ ذلك. لطالما أردتُ أن أستمتع ولو لمرة واحدة، بأصواتٍ لا أعرفها، ولا أعرف ما تقول. لطالما أردتُ أن أكتشف لوحدي، أن أتوه لوحدي، أن أمشي وأمشي بعيداً لوحدي. أن أستمع لما تقوله عيناي عندما ترى كل منظرٍ بديع. أن أشعر بشيءٍ جميل، ثم أبتسم لوحدي، كالمجنون، دون أن يسألني أحد: ما بك. أنا أجلس على هذا المقعد الآن لوحدي، رامياً كل شيءٍ خلفي. منتظراً بكل شغف، ما ينتظرني هناك، في بلاد المجانين.
قضت الساعات في الطائرة بسرعه ولم أشعر بها. فقد قضيتها بالكتابة قليلاً، وبالقراءة قليلاً، وبمشاهدة بعضاً من الأفلام قليلاً. حتى قررت أن أفتح النافذة، لأرى تلك الأنوار الرائعة. بدت روما جميلة جداً من السماء رغم حلول المساء. أنوارها أتت على شكل دوائر، وبين الدوائر خيطٌ رفيع من الأنوار أيضاً، وكأنها مسارح امتلأت بالراقصين، وتربطهم قلوب العاشقين. كان منظراً رائعاً بلا شك. حتى قررت أن تختفي تلك المدينة وسط غيومٍ ثقيلة، وتحولت أنوار المدينة إلى برقٍ يؤلم العينين. كم كان قريباً ومخيفاً ذلك البرق. كل ذلك كان قبل الهبوط بقليل. دقائق جلستُ فيها أفكر عن ما إذا كانت هذه الرحلة تبدأ بالقسوة هذه، فكيف ستكون نهايتها. إلى أن هبطنا، وعاد كل شيء إلى حاله. ولكني حملتُ شيئاً قليلاً من الخوف معي إلى أرض المطار.
وقفتُ هناك في طابورٍ طويل يعج بالمسافرين المتعبين. ثم ما أن خُتِم على جواز سفري حتى أخذت حقيبتي واتجهت باحثاً عن مركبة أجرة. وقفتُ في طابور طويل آخر، لكن بعد دقيقة يأتيني رجل، يسألني إن كنت لوحدي، أجبت بالإيجاب، فإذا به يأخذ حقيبتي وعنوان إقامتي وراح يحدث صديقه بالإيطالية. بعد ثوانٍ وجدتُ نفسي أجلس في المقعد الأمامي من حافلة صغيرة مع أشخاصٍ لا أعرفهم. يجلس بجانبي رجلٌ روسي يزور روما لثلاثة أيام ليحضر حفلاً لعيد ميلاد أحدهم. وفي الخلف يجلس زواراً من الدانمارك وآخرون إنجليز، يأتون ليقظون في روما خمسة أيام، مثلي تماماً. كيف شعرت؟ لا شيء. في بلدٍ غريب، ومع غرباء، لكني لم أشعر بالغرابة أبداً. أمراً يثير الاستغراب. فأنا الذي أحاول تجنب الغرباء في المكان الذي أعيش فيه، أجد نفسي لا أمانعها في مكانٍ آخر. كل ما فعلته هو الاستمتاع باللحظة. ثم داهمت ذهني بعضُ أفكارٍ مخيفة. ماذا لو قال لي موظف الفندق أن لا حجز لي؟ هل سأقضي أول ليلةٍ لي في روما، في الشارع؟ ثم طردتُ الفكرة من رأسي، وعدت للاستمتاع باللحظة. ينزل الروسي إلى شقته، ثم بعدها بدقائق أنزل أنا في فندقي. تذكرتُ وأنا أستلم مفتاح غرفتي، أني لم أرَ وجوه الأشخاص الذين كانوا يجلسون خلفي في الحافلة الصغيرة. لم أعرف عددهم، ولا شكلهم، ولا شيء عنهم سوى ما خرج من أفواههم إجابةً على أسئلة السائق المجنون. نعم مجنون، كان يحدّث نفسه فالطريق. أو، لا ليس مجنون. فأنا أفعل ذلك في أحيانٍ كثيرة أيضاً.
لم تبدو روما غريبةً في طريقنا من المطار إلى الفندق. وكأني زرتها من قبل. روما تشبه الشام في كثيرٍ من الأحيان. الشام التي زرتها قبل سنين. الشام التي لم تعد الآن كالشام. شوارعها، سياراتها، جنون سائقيها. حتى بعضاً من ألوانها. لا شيء كان غريباً في طريقنا من المطار إلى الفندق.
رميت أمتعتي في الغرفة وخرجت أمشي في شوارع العاصمة العتيقة. استقبلتني روما بالورود. فكل من صادفته في الشارع كان يحمل ورداً أحمر. كلهم احتفلوا بالحب في يومٍ بعيدٍ جداً عن عيد الحب. وبعد دقائق قليلة، استقبلتني روما من جديد، بالمطر. جرى الناس جميعاً يبحثون عن مكانٍ يتظللون به، وأنا معهم جريت. خلت الساحة من البشر إلا من شرطيٍ وقف بلا حراك، مستمتعاً بذلك المنظر. وكأنه هو من أرسل لنا ذلك المطر. هكذا انتهت ليلتي الأولى، في روما. عاصمة البشر والمسيحية والطعام. عاصمة الأرواح الصاخبة والظلام.
أما في الصباح، فقررتُ أن أمشي دون هدف. رغم أني كتبتُ الكثير من الأماكن التي وددتُ زيارتها، ولكن قلت في نفسي، ليس الآن. قادتني أرجلي للشوارع القديمة، والمعالم المحطمة، والسكّان الغاضبين من كل شيء، حتى من أنفسهم. جلستُ في أحد المقاهي، دون الالتفات لأسمه. ففي روما، القهوة كلها لذيذة. جلستُ في زاويةٍ أرى الناس. السعداء منهم والمحبطين. البطيئين منهم والمستعجلين. كان صباحاً جميلاً جداً، قضيتهُ بمشاهدة ما حولي، ومن حولي. ونسيت نفسي تماماً. رميت كل شيء في غرفة الفندق تلك، وخرجتُ لأشعر بالآخرين. جميلٌ جداً أن لا تفكر، ولا تحكم، ولا تقدّر. جميلٌ جداً أن تجلس وأن تمشي، دون أن تقرر. تركتُ كل القرارات لرجلي، رجلي فقط.
عدتُ بعد الغداء إلى الفندق، فقرأت شيئاً من الرواية التي حملتها معي. بدت مدهشة، ولم ينقصها سوى كوباً من القهوة. أخذتها معي لأحد المقاهي في زاويةٍ ما قريبة من الفندق بعض الشيء. جلستُ هناك أراقب السواح يمرون أمامي في حركة سريعة، وآخرون يقفون للحظاتٍ قليلة أمام النافورة الشهيرة، يرمون فيها بعضاً من النقود وبعضاً من أمانيهم، ويرحلون. وما أن مضت دقائق حتى وجدتُ نفسي أغرق في الرواية من جديد، دون أن أشعر بمئات البشر الذين يمشون من أمامي، إلى أن سمعتُ أحدهم يطلب أن يجلس معي ليدخن الغليون. كان رجلاً طويل القامة في الخمسينيات من عمره، يرتدي بنطالاً بني وقميصاً وردي وقبعة الكاو بوي. فمددتُ يدي مشيراً إلى الكرسي. شكرني، ولم أنظر إليه. جلس وشرع هو في التدخين، وعدتُ أنا للقراءة. لمحتُ لاحقاً أنه أخرج نقوداً من جيبه ليعدها، كانت دولارات أمريكية، فعرفت أن وجود تلك القبعة على رأسه لم يكن صدفة. مضت دقائق عدة دون أن يلتفت أياً منا للآخر. إلى أن قاطع قراءتي بسؤاله: من أين تشتري الكتب؟ ظن أني اشتريته من روما. فقلت من بلدي. سألني إن كنتُ سائح، فأجبته: لبضعة أيام، ثم أذهب إلى اسطنبول. ثم سألني إن كنتُ أعرف الروائي دان براون وإن كنتُ قرأت روايته الأخيرة (أنفيرنو)، فأجبته بالسلب. قال أن الرواية وقعت في بعضاً من مدن إيطاليا واسطنبول التركية. تمنى لو أنه كان بإمكانه زيارتها في رحلته السياحية هذه، فقد قرأ الكثير عنها في الرواية، وأُعجب كثيراً بها. تحدثنا بعد ذلك قليلاً عن روما وطقسها. ثم شيئاً قليلاً عن وظائفنا. ثم تمنى لي يوماً سعيداً ورحل. كان ذلك أول حوارٍ لي مع غريب منذ فترة طويلة. تذكرت بعد أن رحل، أني لم أتعرف على أسمه. رغما غرابة الحديث الذي كان سببه روايةٍ ما، إلا إني سعدتُ جداً. لن أرى هذا الأمريكي في حياتي مرة أخرى، وأعلم جيداً أني سأنسى هذا اللقاء وكل ما دار فيه عمّا قريب. ولكنها كانت لحظة جميلة، وكم هو رائع أن نعيش اللحظة الآنية، دون تفكيرٍ بما أتى قبلها وما سيأتي بعدها. عندما أخبرتُ صديقي عن الحوار الذي دار بيني وبين الأمريكي، قال: لمثل هذا يا صديقي، نسافر وحدنا.
وهكذا كانت بقية أيامي في روما. قضيتها بين زيارة المتاحف والكنائس، والتلذذ بالقهوة واقفاً وجالساً، وبين القراءة والاستماع لماجدة الرومي ومحمد عبده وفيروز وعبدالحليم، بعضها لأسبابٍ أعرفها وأخرى أجهلها. هكذا كانت أيامي في روما، المدينة التي أيقظتني، وانتشلتني، وأخذتني لمكانٍ بعيدٍ جداً. لا أعتقد أني كنتُ سأصمد لخمسة أيام لوحدي لو اخترت التوحّد في أي مدينةٍ أخرى. روما بلا شك مجنونةٌ بالحياة، عاشقة لها بكل شكلٍ من الأشكال. روما تملؤها جميع أشكال البشر، والأرواح، والأحلام. هي ثورةٌ في زمنٍ فقد فيه الكثيرون المعنى الحقيقي للثورة. كم هو رائعٌ منظرها وهي تحتضن كل هؤلاء السواح الذين أشاهدهم الآن وأنا جالسٌ في مقعد هذا المقهى المختبئ في أحد الأروقة القديمة. تحتضن الجميع رغم غضب سكّانها من كل شيء. إلا أن غضبهم يشبه لحدٍ كثير حباً ثائراً لا يعرف كيف يعبّر صاحبه عن ما بداخله. في روما لابد أن تتقبل كل أحد وكل شيء كما يأتيك، من دون أن تختلق في ذهنك أية حكايةٍ أو قضية. في روما، استسلمت كما قلت سابقاً، للحظة الآنية، متناسياً كل ما كان يدور في رأسي سابقاً، وكل ما سيأتي لاحقاً. 
في روما، كل الأشياء تتشابه تقريباً. نادراً ما تأتيك البيتزا مقطعة، وإذا أتت كذلك، فاعلم أنها ليست جيدة. في روما، لا تأتيك القهوة حارّة، لأنهم يريدونك أن تنتهي منها وتغادر بسرعة. في روما، الكل يتسوّل بنفس الطريقة. كلهم يبيعون نفس البضاعة. وحتى الموهوبون منهم، فقد تشرّبوا نفس الموهبة. الشوارع في روما مضحكة. لحقني أحد الباعة في الشارع، وسألني إن كنت أتحدث الإيطالية، فنفيت. ثم سألني عن بلدي، فقلت له خمّن، فقال ربما أتحدث لغتك، فقلت أشك في ذلك. فقال السلام عليكم. قلت إذاً أنت تتحدثها فعلاً، فقال لا للمخدرات. ضحكتُ طويلاً ومشيت. ثم اكتشفت أني حتى الآن لا أعلم ماذا كان يريد. 
 
كنتُ أقصد أحد المعالم القديمة في روما حين التفتُ يميناً لأرى درج بعتباتٍ عشر يعلوه باب أخضر عملاق. دخلت من ذلك الباب دون شعور لأجد نفسي في كنيسة. ليس ذلك فقط، بل ويقام فيها مراسم للزواج في تلك اللحظة بالتحديد. لم يوقفني أحد، فوقفتُ هناك أشاهدهم. بابتساماتهم، وغنائهم الملائكي لتراتيلهم الدينية. لا أدري لماذا شعرت بالسعادة. سعدتُ لأشخاصٍ لا أعرفهم. لا تربطني بهم صداقة، ولا لغة، ولا دين، ولا لون، ولا أصل ولا وطن. كل ما كان يربطنا، في تلك اللحظة، هو أننا جميعاً بشر، فقط بشر. أحسستُ لحظتها بجمال الحياة، والمعنى الحقيقي لها. فهم لم يلاحظوا وجودي، ولن يعرفوا أبداً عن شعوري في تلك اللحظة تجاههم. تمنيت لو أننا نستطيع أن نكون كذلك تجاه بعضنا في كل الأوقات، رغم كل الاختلافات. أما كان العالم ليبدو أرقى وأطهر؟  جمال الحياة يكمن في بساطتها، والشعور بالسعادة تجاه الآخرين في لحظة احتفالهم، هو أبسط شعورٍ إنساني يمكن أن يقدمه البشر للبشر.
ذات مساء، قررت أن أتوه. قررت أن أمشي دون عنوان أقصده، أو شعورٍ أدركه. كل ما كنت أريد أن أفعله هو أن أمشي، مؤمناً بقرارات أرجلي، مستمتعاً بألبوم عبدالمجيد الجديد. أحياناً أسرح في وجوه المارة، وأحياناً في أحذيتهم، وأحياناً  كثيرة في السماء الصافية. والمضحك أني توقفت لثلاث مرات كي أساعد السواح في طريقهم، وفي كل مرة كنتُ أجيب: انا لست سوى رجلٍ تائه.
لم أكن أعلم إن كنتُ تائهاً في تلك اللحظة فقط، أم تائهٌ بشكلٍ عام. لكني لم أفكر في الأمر كثيراً، عكس ما كنت أفعله في العادة. لم تكن هذه الرحلة أبداً للتفكير في الأمور المعقدة، بل في أبسطها وأجملها.
غادرت روما، سعيداً بالوقت الممتع الذي قضيته فيها، حزيناً لتوديعها. كانت بلا شك واحدة من التجارب المختلفة. غادرتها تاركاً ورقة في غرفة الفندق كُتب عليها: هذه غرفتي في روما، وهذه حقيبتي وأشيائي. وها أنا الآن راحلٌ لأرضٍ أخرى. عسى أن نلتقي قريباً، في الواقع أو في الأحلام. أحببتكِ من أول نظرة، وسأحبك دائماً.
 
كانت هذه، أيامي الخمسة في روما.

No comments:

Post a Comment