أكتب لأن في هاتفي أحرف عربية

الخروج الأخير

 
 
أيا عالمي الصغير الذي أسكنه منذ عام 1989، ها قد حان موعد الفراق. دائماً أردد، أننا نحن من يغادر الأماكن، لكنها لا تغادرنا. وها أنا اليوم أترك المحيط الذي مشيت فيه لأول مرة، وتكلمت فيه لأول مرة، وبكيت فيه مرة تلو المرة.
اليوم أقطع طريقي مع أول من أحببت، ومن سأحب إلى الأبد. مع أول من سكنت، ومن سيسكنني إلى الأبد. اليوم، أرحل عن جدرانٍ كتبتُ عليها كثيراً، ورسمتُ عليها أكثر. كل الأمنيات والأحلام وحتى الخربشات، تلك التي عشتها في طفولتي، كلها رحلت من مخيلتي، ولكنها لن تغادر هذه الجدران. سنين كثيرة جداً، أمضيتها، في كل زوايا المكان. هنا كان المكان الذي شكرت الله كثيراً كلما وصلت إليه. بعد اليوم، لا أعلم كيف سأسلك طريقاً آخر بعد يومٍ متعبٍ جداً. لا أعلم كيف سأفكر في مكانٍ آخر غير هذا المكان. هنا ولدنا جميعنا أنا وإخوتي، وهنا تعلمنا ومن هنا تخرجنا. هذا البناء الواقف، وهذا السرير الدافئ، وهذا الهواء الذي تنفسته لأربعةٍ وعشرون عاماً. 
 
الوداع يا من أحببتنا جداً، ويا من أحببناك بعنفٍ وخجل. وداعاً أيها الحضن الكبير، والقلب الجميل. أودعك اليوم، وأعدك بأن لا أنساك. لن أنسى غرفتي الأولى عند الزاوية المطلة على أقفاص الحمام. لن أنسى اليوم الذي قطعت فيه اصبعي بالسكين وأنا أصنع بيتاً للقطط الصغيرة. لن أنسى اليوم الذي حرقتُ فيه جسمي داخل المطبخ الخارجي. لن أنسى كل الأماكن التي اتخذناها ملاعب عالمية لكرة القدم، ومسارح للدراما والضحك. لن أنسى السيارة الحمراء الصغيرة، والدراجات، وكل ما عاش عندنا من حيوانات. 
 
اليوم ينتهي من عمري عمر، واليوم نبدأ عمراً جديد. دخلت وخرجتُ من هنا آلاف المرات، إلا أنني اليوم، أرتكب جريمة الخروج الأخير. أرحل اليوم إلى منزلٍ جديد. سيكون ذلك منزلي، أما أنت، فستبقى بيتي إلى الأبد.

No comments:

Post a Comment